Allah.comMuhammad.com
Azhar.IndonesiaMIT.com
Available in Word, PDF, HTML in 133 languages
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
فلتسقط كل مسميات الجماعات المختلفه فانسلخ منها جميعا ويكفيك
أين الطريق - من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي -
البرنامج التعليمي لكل مسلم وعلماء الأزهر
القناة الوقفية للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل
برنامج "أين الطريق؟"
شيخ الدعوة حازم صلاح ابو اسماعيل
اختار واحدا:
() وسائل التواصل الاجتماعي:() تيليجرام، ()يوتيوب، () رامبل، () X، () فيسبوك الخ () +20
1. اقرأ جميع المستندات الـ 63 بـ 130 لغة
2. اقرأ كل 63 لغة HTML بـ 130 لغة
3. استمع إلى جميع ملفات mp3 البالغ عددها 63 باللغة العربية
4. استمع إلى جميع ملفات mp3 المقروءة بتقنية الذكاء الاصطناعي بـ 10 لغات [10%]
5. شاهد جميع المقاطع الـ 63 mp4 في 20 وسيلة تواصل اجتماعي
6. جديد: Hazim ChatGPT: ابحث أو اطرح أي سؤال بطريقة ChatGPT Hazim'a
7. المرجع [مسرد الكلمات الفريدة، التوافق]
اقرأ
ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
What we all Do not Know about the Messenger of Allah
may Allah bless him and his family and grant them peace
ردود وأجوبة معاصرة على شبهات الجهل
Contemporary Responses and Answers for Suspicions of Ignorance
فقرات تكررت بكل كتابات وخطب ومحاضرات
شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب
شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ تفسير القرآن والدعوة الدكتور محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف السابق
شيخ الحديث الدكتور عبد الله بن الصديق الغماري
شيخ الدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل
- فك الله أسره من سجن السيسي بمن يردعه -
https://youtu.be/32F8XTW0faE?si=m0fgFbQQyM6ArK1g
السيرة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قضايا معاصرة
رمضان وثورة القلوب
حوله لنص وترجمه لمسودات 130 لغة
وعمل له قاموس بدون تكرار: أحمد بن الدرويش الذي يعلمك كيف تحول أي صوت و PDF إلى نص وورد وتترجمه لمسودات 130 لغة بنقرات قليلة؟
https://www.youtube.com/@Keramn.Studio/videos
تم نقل الأعمال الكاملة لشيخالدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل إلى قناة جديدة بالتليغرام (التي سيعقد عليها البرنامج التعليمي أين الطريق)
القناة الرسمية
https://www.youtube.com/channel/UCWt3
https://www.youtube.com/@Keramn.Studio
https://youtu.be/FHfEPu4KneI?si=XBjDXmWq6zoMY392
السيرة النبوية - سلسلة صوتية
قضايا معاصرة ... شبهات وردود
رمضان وثورة القلوب
وشيخ الدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل من أوائل من تم اعتقالهم بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 مباشرةً
وما زال معتقلاً مع آلاف المظلومين حتى الآن. ومشهور عنه قوله "السيسي بحاجة لمن يردعه" أي -يردع نفسه بالتوبة - أو يردعه من جند مصر الأزهر التى فتحها الصحابي عمر بن العاص وحرر القدس بجند مصر القائد صلاح الدين الأيوبي، واللهم وفق السيسي - كما وفقت المغول – في تحرير القدس، وفي البناء الإقتصادي لمصر أو غيره. فاللهم لا نتألى عليك – أحمد بن الدرويش
من هو الذي هزم المغول؟
معركة عين جالوت (25 رمضان 658 هـ / 3 سبتمبر 1260م) هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي؛ إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة كتبغا.
معركة عين جالوت، واحدة من أهم المعارك التي شكلت منعطفا حاسما في التاريخ الإسلامي، جرت أحداثها في 25 رمضان عام 658 هـ، الموافق للثالث من سبتمبر/أيلول 1260 ميلادي، وفيها انتصر المسلمون بقيادة السلطان المملوكي سيف الدين قطز على جيش التتار المغولي بزعامة هولاكو في منطقة عين جالوت بفلسطين.30 Apr 2023
معركة حطين معركة فاصلة بين الصليبيين والمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وقعت في يوم السبت 25 ربيع الآخر 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187 م بالقرب من قرية المجاودة، بين الناصرة وطبريا انتصر فيها المسلمون، ووضع فيها الصليبيون أنفسهم في وضع غير مريح إستراتيجيا في داخل طوق من قوات صلاح الدين الأيوبي، أسفرت عن تحرير مملكة بيت المقدس وتحرير معظم الأراضي التي احتلها الصليبيون.
المغول والإسلام
يعد أبو المعالي ناصر الدين "بركة خان
وهو الابن الرابع لجنكيز خان، واسمه قبل الإسلام "جوجي"، أول من أسلم من حكام المغول، وكان مغول الشمال "القبجاق" (القبيلة الذهبية) السباقين إلى الدخول في الإسلام متقدمين على بقية القبائل المغولية.
وإحياء الأمة اليوم بتم بالاحتشاد والضغط الجماهيري بمسيرات مليونية بعد كل صلاة جمعة وبالمقاطعة الكاملة لكل المنتجات الصهيونية والغربية أي يجب أن تبدأ بمصر مسيرات مليونية بعد كل صلاة جمعة لنسخ الظلم ولإفراغ السجون وتحرير البلاد من السفارات الأجنبية ومحاكم القضاة الظلمة وتحرير شيخ الدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل من السجن وردع المخبرين الذين يتجسسون بالحواري والشوارع على المسلمين (أكثر من 50000) ومراكز الشرطة والأمن المركزي ومجلس الشعب ومباني وسائل الإعلام الذين تتبع رياستهم اليوم "خطة الموساد المشتركة" اسمع للدكتور عبد الله النفيسي شيخ الساسة المسلمين الذي يصف نفسه أنه عميل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشرح لك أن المساد يأمر الحكام ويخطط لهم
الحمد لله رب العاليمن كل الناس تعرف شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وشيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود محي تراث الأولياء وواعظ مجاهدي جيش مصر لتحرير سيناء وشيخ تفسير القرآن والدعوة الدكتور وزير الأوقاف محمد متولي الشعراوي وشيخ الحديث الدكتور عبد الله بن الصديق الغماري مجدد علم الحديث ومغلقه
أما شيخ الدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل فقد ولد في (16 يونيو 1961 الدقي الجيزة) وهو شيخ مشايخ الدعوة وداعية إسلامي وسياسي إسلامي مصري؛ قدم العديد من البرامج الإسلامية على عدد من القنوات الإسلامية قبل ثورة 25 يناير ،هو رجل قانون مصري ومتحدث في الفكر الإسلامي والشؤون السياسية، وهو ابن الشيخ الأزهري صلاح أبو إسماعيل (الحمد لله كنت أزوره بمنزله بالدقي) المعارض الشهير وعضو مجلس الشعب السابق، وهو عضو مجلس نقابة المحامين المصرية ضمن «لجنة الشريعة» الممثلة للسلمين في النقابة، ومرشح سابق لانتخابات مجلس الشعب المصري.
وهو محام بـالنقض، وصاحب مكتب محاماة بوسط القاهرة. له مرافعات في قضايا عدة منها المحاكمات العسكرية للمسلمين فضلا عن تخصصه في قضايا النقض بصفة أخص، وله مؤلف قانوني في أصول الدفاع في القضايا وطعون دستورية متعددة قضي بها.كما أنه غير اثنين من مبادئ محكمة النقض.
تقدّم للترشّح لانتخابات الرئاسة المصرية 2012 «مؤيداً من 152,835 ناخباً و47 نائباً منتخباً بمجلسي الشعب والشورى». لكنه استُبعد بحجة أن أمه تحمل الجنسية الأمريكية. ، ومن أوائل من تم اعتقالهم بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 مباشرةً وما زال معتقلاً حتى الآن.ومشهور عنه قوله "السيسي بحاجة لمن يردعه"
المولد والنشأة
ولد حازم صلاح أبو إسماعيل سنة 1961م، وهو من مواليد حي الدقي محافظة الجيزة وموطن عائلته بقرية بهرمس مركز امبابة محافظة الجيزة، هو نجل صلاح أبو إسماعيل أحد علماء الأزهر الشريف وداعية إسلامي وأحد أعضاء جماعة المسلمين والنائب الإسلامي في مجلس الشعب لأربع دورات متتالية كان في بعضها النائب الوحيد؛ جده لأبيه كان عضوا في مجلس الشيوخ وجده لوالدته كان أستاذاً للدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، التحق بكلية الحقوق
النشاط السياسي
انخرط في العمل السياسي أثناء الدراسة الثانوية ثم الجامعية وما بعدها في عدد من القضايا منها هضبة الأهرام وتوصيل مياه النيل لإسرائيل معاهدة السلام واتفاقية كامب ديفيد وتعديلات قوانين الأحوال الشخصية وعلاء محي الدين وعبد الحارث مدني وتجميد حزب الوفد وحزب العمل وتزوير انتخابات 1979 ومقاومة اللائحة (الجديدة وقتها) لاتحاد طلاب الجامعات ومصادرات جريدة الأحرار وغيرها. له بحث جامعي معد سنة 1986 لنيل درجة الماجستير في القانون الدستوري كان موضوعه "حق الشعوب في مقاومة الحكومات الجائرة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدستوري".
اشترك دون عضوية حزبية في إعداد برنامج حزب الوفد واللائحة التنظيمية لحزب الأحرار وندوات أحزاب الأحرار والتجمع والوفد ومؤتمراتها عبر شخصيات من قيادات هذه الأحزاب وتتابع باستمرار اهتمامه بالقضايا السياسية العامة امتداداً لذلك، وتولى الإدارة الكاملة بكافة وجوهها لانتخابات مجلس الشعب في دائرة والده 1984، 1987 والخطابة في مؤتمراتها الانتخابية كما اشترك في إدارة المعركة الانتخابية لانتخابات أخرى سنة 2000 وبسبب نشاطه العام كان محلا ضمن الهجوم على معارضين لهجوم عليه بالتبعية في خطاب لرئيس الجمهورية وأحد وزراء الداخلية عام 1981 وعام 1988، ودخل معارك متعددة دفاعا عن عدد ممن يختلف معهم عقائديا وسياسيا في مواجهات متعددة ضد الظلم، منذ تخرجه عضوا في جمعية الاقتصاد السياسي الشهيرة. وقد حرص عبر عشرين سنة على زيارة الولايات المتحدة لعدة أسابيع أثناء جميع الانتخابات الرئاسية الأمريكية ما عدا الأخيرة لمتابعتها تفصيلا عن قرب ومتابعة المناظرات التي كانت تجري فيها بين المرشحين الرئاسيين.
كان لأسرته حضور سياسي في السابق، وقد كان جده عضوا في مجلس النواب وكان جده الأكبر من علماء الدين وإماماً بمعهد الخديوي إسماعيل، له مواقف معلنة تجاه قضايا سياسية مصرية مختلفة، من أبرزها اتفاقية السلام مع إسرائيل التي وعد بإلغائها في حال فوزه بالانتخابات، كما وصف إيران بأنها نموذج ناجح لدولة تخلصت من النفوذ الأميركي لتقف على قدميها، معلناً في الوقت نفسه اختلافه العقائدي معها. واتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بالسعي لتقويض انتخابات الرئاسة المصرية لمصالحهما.
ترشح في مصر شيخ الدعاة الدكتور حازم أبو إسماعيل في انتخابات مجلس الشعب المصري عام 2005 في دائرة الدقي والعجوزة وكانت منافسته الرئيسية الوزيرة أمال عثمان وقد أعلنت النتائج الرسمية عن إعلان فوز أمال عثمان الوزيرة السابقة وأستاذ القانون وقد اتهمت الحكومة بوجود تلاعبها في النتائج.
وقد حدث الأمر ذاته في انتخابات 1995 وحصل في كل منهما على حكم قضائي لصالحه رصد صورة التزوير الخاصة في كل منهما لصالح نظام مبارك وقضى في كلتا المرتين بإثبات نجاحه بأغلبية كبيرة جدا من الأصوات ثم قاطع انتخابات 2010.
أعلن أبو إسماعيل الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية 2011 في 24 مايو 2011.
بعد سقوط نظام حسني مبارك يوم 11 فبراير نتيجة ثورة 25 يناير 2011، يقول أنّه وجد الرؤى المطروحة على الساحة ما هي إلا أفكار متناثرة وليس مشروع متكامل لبناء دولة بمنهجية ورؤية شاملة فقرر عرض رؤيته كمرشح للرئاسة بمرجعية إسلامية واضحة.
أوضح أنه لم يكن مبارك ليسمح للمعارضين له أن يظهروا في الإعلام المصري تحت الرقابة الشديدة. والمعارضات في الأغلب كانت هزلية من باب الديمقراطية والحريات الزائفة. لكنه منذ 2008 أثناء الحرب على غزة دعا الناس في كل محاضراته أن يركزوا على فكرة الاعتصام في الشارع دون عودة للمنازل لإسقاط الأنظمة الديكتاتورية.
وقد خطب الناس في عام 1987 مطالبا الناس بعدم التجديد لمبارك وترافع عن أحد من يوزعوا منشورات للتنديد بحكم حسني مبارك عام 1989 قائلا أنّ مبارك - طبقا لما نشرته مجلة ذا إيكونوميست - أحد أغني أربعة أشخاص علي مستوي العالم وبالتالي الدفاع عن النفس والمال ضده هو دفاع شرعي لأنه دفاع عن مال الشعب مستندا إلى قول الرسول صلي الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد "
تم قطع الكهرباء عن مسجد أسد بن الفرات أثناء إلقاءه دروسه في أسد بن الفرات من قبل أمن الدولة وتم إغراق حول المسجد بالماء وحوصر المسجد بجنود الأمن المركزي وأصر على استكمال درسه الأسبوعي وألقاه خارج المسجد.
وقال انه لن يمنع السياحة في مصر فهي مصدر أساسي للدخل ولديه برنامج تفصيلي بدراسات جدوى يجعل دخل السياحة 8 أضعاف الدخل السابق. وأكد على تنمية وتطوير سياحة الشواطئ والآثار بالإضافة لإحياء أنواع أخرى من السياحة مثل سياحة المهرجانات والقرى السياحية ذات الطراز الخاص وكذلك السياحة العلاجية (مستشفيات عالمية ومنتديات علاجية) مع وضع خطط تمنع تحكم دول أوروبا وأمريكا في تدفق السياحة على مصر والتي تهدد العاملين في السياحة في كثير من الأوقات بالبطالة. كما قال الشيخ حازم إنه لن يسمح بشرب السياح للخمر في الأماكن العامة، وسيقوم بتطبيق القانون علي المخالف ومحاسبته. فيجب على أجهزة الدولة صياغة الضوابط التي تجعل السائح يحترم المجتمع وأعرافه والتي ليس فيها إهانة له بل تجعله هو من يسعى للتعرف على شعب مصر عن قرب بأخلاقه الرفيعة. وإذا كانت الدولة ستمنعه من شيء في بعض الأماكن فهي ستوفر له البديل. وأكد أنه لن يعارض دخول السياح بالخمور لمصر ولن يمنعهم من ذلك داخل المنازل والفنادق والشواطئ الخاصة. وبعث أبو إسماعيل برسالة طمأنة لكل من يعمل في السياحة وعلى كل المستويات ألا يقلق أو يخاف على مصدر دخله فالقرارات لن تكون عبثية أو عاجلة إلا بعد دراسات عميقة ومتأنية وتخطيط لآليات التنفيذ ومراحلها.
وفي شأن السائحات اللاتي ترتدين المايوهات علي الشواطئ العامة والسياح الذين يلعبون القمار في صالات الفنادق، قال إنه في حال فوزه بالرئاسة سيقوم بإصدار القوانين التي تحظر عليهم ذلك في المرافق العامة وتقديم المخالفين للمسائلة لأنهم بذلك صادموا أخلاقيات المجتمع التي تنبثق من شريعة الإسلام لكن لا بأس أن يفعلوا ذلك في أماكن خاصة. ثم أكد أن هذه ليست الأمور التي ينظر إليها في الوقت الحالي ولا يجب أن تطرح على مرشح رئاسي والأهم هو بناء الدولة اقتصادياً واجتماعياً.
أكد وجوب تعديل بعض القوانين المنظمة لعمل البنوك المعتمدة على الربا المحرم فهي محاربة لشرع الله بالإضافة لأنها لم تحدث أي تنمية في الماضي بل زادت من حدة التضخم الذي استولى على الفائدة وانهار الاقتصاد ولم تستثمر الأموال في مشاريع حقيقية تخدم المجتمع. وقد استشهد بمظاهرات وول ستريت في دول العالم التي نددت بالنظام الرأسمالي الذي عانت منه الشعوب حتى المتقدمة وزاد من الضرائب والفارق الطبقي بين الغنى والفقير وأدى للأزمات المالية العالمية. ونادى أبو إسماعيل بالاقتصاد الإسلامي الذي سيشعر المواطن المودع بأرباح حقيقية وكبيرة.
وعن سؤال بعض الإعلاميين عن موقفه من فرضية الحجاب أجاب أن كل هذه التخوفات لم تطرح ومحض خيال لم يتكلم به أحد؛ ورغم كون الحجاب فريضة على كل مسلمة إلا أنه لن يفرض بالقوة على المتبرجات (من لا ترتدي الحجاب). وقد عاش الشعب سنوات طويلة بعيدا عن دينه فلا يحتمل أن يرى النور فجأة بل يجب توعيته أولا وتربية النشء تربية إسلامية صحيحة وتهيئته تدريجيا؛ وعندها سيجد الناس من تلقاء أنفسهم يميلون لذلك ويطالبون به. وقد يتهيأ المجتمع في سنة أو اثنين أو قد يستغرق عشرة أعوام أو أكثر. فقبول المجتمع وإرادته هي التي ستفرض نفسها وليس الرئيس.
وكشف أنه سيقوم إذا أصبح رئيسا بتقديم طلبات للجهات التشريعية على نحو تدريجي وعلى حسب طاقة تقبل الناس لإصدار قوانين تضع حدا لأزياء النساء الفاضحة والمثيرة خارج منازلهن حتى لا ينتشر العرى وحفاظا على الأخلاقيات من ثقافات الغرب الدخيلة على المجتمع وحتى لا يرى في المستقبل القريب من تخرج عليه شبه عارية باسم الحرية. فالحرية مكفولة للجميع ولكن بضوابط حتى لا تضر بالآخرين. وكذلك إصدار قوانين تلغي على أساسها التراخيص الخاصة بالملاهي الليلية وصالات القمار في الفنادق وتضع المخالفين تحت طائلة القانون.
واستشهد أبو إسماعيل بإسرائيل حيث منعت صالات القمار لأنها محرمة في التوراة متسائلا، كيف لإسرائيل أن تلغي القمار ونحن نتمسك به ؟، مؤكدا أننا مجتمع لا يبيع شرفه من أجل المال في إشارة للأموال التي قد تحققها السياحة من خلال ذلك.
وعن عمل المرأة فأكد على الحاجة له بشدة في المدرسة والجامعة والمستشفى وغيرها ... ولا يمكن الاستغناء عن ذلك ولكنه سيسعى مستقبلا ألا يكون هناك عملا تشارك فيه المرأة الرجل في مكان واحد تقضى فيه معظم اليوم أكثر مما تقضيه في بيتها مع زوجها فهذا يؤثر على حياتها الزوجية بالسلب. ويري أنه ينبغي أن يكون للمرأة قبل الزواج عملا سواء تطوعيا أو بأجر قبل الزواج أو بعد توفي زوجها وزواج أبناؤها بدلا من العيش في فراغ وبدون قضية لمناصرتها.ويعتبر أبو إسماعيل أن المرأة التي تجلس في المنزل لرعاية زوجها وأولادها هي امرأة تعمل وليست عاطلة وأن هذه من أشرف المهن. ويدعو أبو إسماعيل لرعاية الدولة للمرأة في فترة الحمل والرضاعة والأمومة إذا رغبت في ترك العمل بمحض إرادتها واختيارها وإعطائها راتب على ذلك لأنه عمل أعظم وأجل فهي من تخرج الأجيال القويمة وتربي نشء المستقبل.
ويرفض حازم أبو إسماعيل بشدة التحدث عن المسيحيين على حد قوله وكأنهم فصيل مستقل عن المجتمع بل هم شركاء أصليون في هذا الوطن ولهم كل الحقوق والإسلام يأمر بهذا ... ولا يقبل أن يظلم طالب مسيحي في ربع درجة ليتقدم المسلم ... فالكل سواء أمام العدالة.ويري أن المسلم الذي يدافع عن حق مسيحي ويقتل نحتسبه في الإسلام شهيدا.وإذا سافر مسيحي خارج البلد تخوفا من حكم الإسلام فسيلحق به ليعيده من آخر الدنيا إلى بلده فهي بلده وليس له فيها أكثر منه.
كان أول المبادرين لعقد اجتماعات عاجلة بين مرشحي الرئاسة لبحث أزمة الخلاف الكبير في كثير من القضايا بين مختلف التيارات والقوى والأحزاب السياسية من جهة وبين المجلس العسكري الحاكم من جهة أخرى، وكان عدم استجابة المجلس لهذه المطالبات وعدم وفائه بتحقيق أهداف الثورة سببا رئيسيا في مطالبة حازم أبو إسماعيل بعد هذه الاجتماعات بإجراء فورى للانتخابات الرئاسية بعد البرلمانية وقبل وضع دستور للبلاد لإنقاذ الوطن من الوضع المتردي أو الالتفاف على مطالب الشعب ، وكنتيجة لعدم استجابة المجلس أعلن أبو إسماعيل نزوله ميدان التحرير يوم 28 أكتوبر ودعوة الآلاف من المصريين لمليونية يوم 18 نوفمبر 2011 للمطالبة بتحديد جدول زمني لنقل السلطة. - *وبعد إعلان المجلس العسكري استمراره في الحكم إلى منتصف 2013 بدلا من الوعد الذي قطعه علي الشعب بعد توليه السلطة في يناير 2011 باستمراره ستة أشهر فقط ومحاولة المجلس العسكري إقرار مبادئ فوق دستورية تضع مميزات له مثل عدم مراقبة ميزانيته وعدم إقرار أي قوانين تخصه وأنه هو الذي يعين اللجنة التي تضع الدستور بدون استفتاء من الشعب ونتيجة لتجاهل المجلس العسكري للمطلب الشعبي واستخدامه للعنف المفرط في التعامل مع المتظاهرين واندلاع أحداث محمد محمود بالتحرير دعا حازم أبو إسماعيل للاحتشاد والضغط الجماهيري مما أدى لإعلان المشير حسين طنطاوى بتبكير انتخابات الرئاسة قبل يوليو 2012.
بعد تنحي مبارك طالب القوي السياسية بعدم ترك ميدان التحرير وعدم الثقة في المجلس العسكري ووعوده وأنه يجب أن يكون الشعب واقفا علي قدميه لأنها الوسيلة الوحيدة لمنع الظلم مرة أخرى ولكن القوي السياسية لم توافقه وقررت إخلاء الميدان. اختلف مع القوى السياسية في توقيعها لوثيقة الفريق سامي عنان وإعلانها تأييدها الكامل للمجلس العسكري.
اختلف مع المسلمين في أنه طالبهم بالمطالبة بتشكيل الوزارة باعتبارهم حزب الأغلبية في البرلمان لكنهم رفضوا في البداية ولكن بعد مرور شهرين طالبوا بتشكيل حكومة لأن حكومة الجنزوري فشلت في تحقيق مطالب الشعب وتحاول عرقلة مجلس الشعب.
رفع حازم صلاح أبو إسماعيل دعوي قضائية مستعجلة ضد وزارة الداخلية والخارجية المصرية واللجنة العليا للانتخابات الرئاسية وحصل علي حكم قضائي من المحكم الإدارية بعدم ازدواج جنسية والدته وإلزام وزارة الداخلية بإعطائه مستند من واقع سجلاتها بما يفيد ذلك إلا أن اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية قررت في 14 إبريل 2012 استبعاده من سباق انتخابات 2012 بعد أن ثبت للجنة من المستندات المرسلة لها من الخارجية الأمريكية حصول والدته نوال نور على الجنسية الأمريكية منذ 25 أكتوبر 2006 وحتى وفاتها في 15 يناير 2010، مما ينتفي معه شرط أصيل من الشروط الواجب توافرها في رئيس الجمهورية بنص المادة 26 من الإعلان الدستوري.
وقد رد حازم صلاح أبو إسماعيل علي هذا القرار بأنه شرخ في البنيان القانوني والدستوري للدولة فكيف تصدر اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية قرارا يعارض الحكم الصادر بحقه وهي ليست لجنة قضائية بحكم القانون بل لجنة إدارية مشكلة من قضاة وخاصة أن نفس الورق المقدم لها هو نفس الورق المقدم للمحكمة وقد علقت المحكمة علي هذا الورق بأنه غير صادر من ذي صفة وأنه ورق لا يلقي له بالا وتصريح محامي الدولة بأن مشكلة حازم صلاح أبو إسماعيل مع الخارجية الأمريكية وليست الخارجية المصرية.
ومن بعد استبعاده من سباق الانتخابات الرئاسية بمصر هو وتسعة آخرين، وتحديداً في 25 أبريل 2012 جاء بيان الدكتور خالد سعيد بما يفيد الأتي : أن الأوراق التي أرسلت من أمريكا هي أوراق غير رسمية من الخارجية فعلاً لكنها أوراق يمكن لأي وسيط قانوني هناك الحصول على مثلها وكتابة ما يشاء فيها، وحازم يمكنه طلب أصول الأوراق الرسمية من هناك عبر الإنترنت أو المكتب القانوني المتعامل معه هناك لكن الإجراءات معقدة وقد تتأخر ظهور الحقيقة وهنا المشكلة. وثم أضاف سعيد مستشهداً براي وبيان د.عمر حنون بأنة كان ممن بحثوا عن إثبات بحصول والدة الشيخ حازم على الجنسية ولم يستطيع إثبات موضوع الجنسية وقد يرد على هذا الكلام بأن والدة الشيخ حازم قد حصلت بالفعل على الجرين كارد باعتراف الشيخ حازم نفسه وقد طالب الدكتور وسام عبد الوارث مدير قناة الحكمة سابقا الشيخ حازم بإظهار الجرين كارد وكذلك جواز السفر المصري وعليه أختام الدخول والخروج بعد 25/10/2006 ولكن الشيخ حازم لم يرد أو بمعنى أصح كان يتهرب من الإجابة وإما عن حكم المحكمة الإدارية فلن يقطع الشك باليقين خصوصا بانه مبنى على ثغرة قانونية فاضحة في المادة العاشرة لقانون الجوازات استغلها الشيخ حازم، وبأنه الآن على يقين من عدم حصولها على الجنسية وهو مستعد للشهادة والإفادة بكل معلوماته لأي جهة إعلامية وأمام القضاء.
كانت أهم القضايا التي يركز عليها حازم صلاح أبو إسماعيل هو وجوب تطبيق الشريعة تدريجيا وعدم التمييع في الأمور وتحقيق الاستقلالية الكاملة من التبعية للخارج لأنه لا يمكن تحقيق التقدم الكامل إلا بالاستقلال من تلك التبعية وإخراج البلد من الأسر وجوب إعطاء الحريات للناس في التعبير وأنه يجب أن توجد ضمانات تضمن للناس الثورة علي الحاكم إذا ظلمهم وعدم السماح بارتداد الظلم مرة أخرى وأن لا نقف في وجه المظلوم ولو طلب حقه بطريقة لا تعجبنا لأنه يجب أن لا نلوم الضحية علي الصراخ المزعج ولكن يجب أن نلوم الجلاد لأنه إذا اختفى المؤثر اختفى الأثر.
بالأول من مايو 2012, بدأ مؤيدو حازم صلاح أبو إسماعيل بالدعوة إلى اعتصام مفتوح في ميدان التحرير ليكون رداً علي ما صرحوا به وكونه تزوير بأوراق الجنسية، ومن ثم بدأ الحشد ومن مختلف الميادين لمليونية أطلق عليها وقتها مليونية إنقاذ الثورة وإن كان قد شارك بها بعض القوى الإسلامية الأخرى إلا أنه سيطر علي هذه المليونية الطابع الخاص بوجود منصة مستقلة تحمل اسم الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.
ومن ثم بنهاية التظاهرة بدأ مؤيدو حازم أبو إسماعيل وكثير من القوي الثورية بالتوجه وبشكل مسيرات كبيرة صوب وزارة الدفاع المصرية بميدان العباسية بالقاهرة، مقررين الاعتصام حتي تحقيق مطالبهم والتي تمثلت بتعديل المادة 28 من الإعلان الدستوري الخاص بعدم قابلية الطعن في قرارات اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، وقد طالبهم حازم صلاح أبو إسماعيل أكثر من مرة أنه من كان معتصما من أجله فليرجع ومن كان معتصما من أجل مطالب عامة فهو وشأنه، وهذا الاعتصام ما لبث بعد يومان أن تحول إلى اشتباكات دامية بين بعض الخارجين عن القانون ومن هم كانوا بداخل الاعتصام، وتراوحت الأعداد التقديرية بحوالي 20 قتيل و160 مصاباً حسب التقارير الرسمية لوزارة الصحة، مع وجود بعض التضارب بالأرقام الوفيات وأعداد المصابين
وإحياء الأمة بالمقاطعة الكاملة لكل المنتجات الصهيونية والغربية ويجب أن تبدأ مسيرات مليونية بعد كل صلاة جمعة لإفراغ السجون وتحرير حازم صلاح أبو إسماعيل ولفضح وردع المخبرين بالحواري والشوارع (أكثر من 50000) ومراكز الشرطة والأمن المركزي ومجلس الشعب ووسائل الإعلام الخ
اعلم أن كل من مشايخ الأزهر والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل - حفظه الله وفكّ أسره - تميز ببصيرة نافذة وذكاء حاد وقدرة عجيبة على استخلاص المعاني من الآيات والأحاديث، ولقد كان قبل الثورة داعية بين الدعاة لا يعرف قدره إلا قليلون، ثم جاءت الثورة المصرية فكشفت عن سبق مكان وعلو مكانته بين السياسيين والدعاة جميعا.
وما أنتجه الشيخ حازم أبو إسماعيلمن مئات المحاضرات والدروس يسهل كتابته أوتوماتيكيا بالسماع لدرس صوتي أو محاضرة، أو يوتوب مرئي مع استخدام الترجمة بالصوت بالنقر على إيقن mic في:
فتكتب لك عدة فقرات ثم تنسخها وتستكمل العمل تباعا هكذا.
أما ما هو PDF فيقلب لصور jpg ويرفع إلى
Google drive
ويقلب إلى وورد طيب بلا أخطاء
https://youtu.be/oZPhII1aCSg?si=AH6j5V0XFiwgDxLM
ولا يُعرف إنتاج شيخنا المكتوب سوى كتيب وحيد هو - كما يبدو من لغته - تفريغ لدرس صوتي أو محاضرة، في حين له مئات المحاضرات والدروس إذ هو طويل النفس في التفصيل والبيان.
أين الطريق - من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي -
البرنامج التعليمي لكل مسلم أزهري أو غير أزهري؟
اقرأ
ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المحتوىالكتاب
مدخل إلى السيرة
السيرة هي تذوق الإسلام! هل السيرة علم ؟!
الفصل الأول: صاحب السيرة صورة الكمال البشري
صفة النبي أخلاق النبي
الكفاءة الإدارية للنبي الكفاءة الثقافية
الكفاءة السياسية
الكفاءة الاجتماعية
الكفاءة العسكرية
حكمة الداعية
الخلق مادة الإسلام وقوام الدعوة
الفصل الثاني: البشارات بنبوة محمد
أهل الكتاب
المتحتفون
الإسلام دين الأنبياء
الخاتمة: خطورة كتمان العلم وتحريف الدين
مراجع المستوى التالي: - حمل مجانا Mhammad.com -
صحيح الشفا للقاضي عياض
الخصائص المحمدية للحافظ السيوطي
الشمائل المحمدية للترمذي
ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لو أفنى الإنسان عمره في قراءة ما تكتبه الأقلام لم يبلغ أن ينهي منها إلا قدرا ضئيلا، فالعقول لا تتوقف عن الإنتاج والمطابع لا تتوقف عن الهدير وفي عصرنا هذا كاد الناس كلُّهم أن يكونوا أصحاب أقلام ولهم كتابات، فما عليك إلا أن تُنشئ حسابا على موقع تواصل اجتماعي فتصير صاحب منبر عام تكتب فيه.
ومن بين الكثير من الغثّ قليلُ من السمين، فأودية العقول كثيرة ونتاج الفلاسفة كغابة ضخمة متشابكة.. فالعلم النافع بالنسبة لبحور الأفكار كالدرر واليواقيت في أعماق البحار.
محمد
والعلم الذي تحتاجه أمة مهزومة مستضعفة تريد أن تنهض ليس كالعلم الذي تحتاجه الأمم في حال رفاهيّتها ورخائها.. فإن أمتنا أحوج إلى فهم الدين الصافي الواضح كما نزل على ، وهي بحاجة إلى فهم الواقع المعاصر لتُحسن إصلاحه بما لديها من الدين، وتحتاج إلى علوم النهوض وبناء الأمم أكثر من حاجتها إلى علوم الترف والزينة والزخارف. وفي طليعة علوم النهوض : فهم الدين والسياسة والتاريخ والعلوم الأمنية والعسكرية.. فالمكتوب في هذه الأبواب أولى بالعناية والاطلاع والدراسة من غيره.
وقد أنعم الله علينا في "مجلة وَارةُ هو " بفكرة أن نقدّم مع كل عدد كتابا هدية، ونحن بين أن نستخرجه من كتاب مهم، أو أن يكون تلخيصا لكتاب مهم، أو أن يكون ترجمة لتقرير مهم.. وهكذا نختاره بحسب أهمية الاطلاع عليه عندنا.
ونرجو أن يعيننا القراء الكرام بترشيحاتهم ومجهوداتهم، فالباب مفتوح لكل مجهود... نسأل الله أن يكون علما نافعا وعملا صالحا خالصا لوجهه الكريم.
تميز الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل حفظه الله وفكّ أسره، ببصيرة نافذة وذكاء حاد وقدرة عجيبة على استخلاص المعاني من الآيات والأحاديث، ولقد كان قبل الثورة داعية بين الدعاة لا يعرف قدره إلا قليلون، ثم جاءت الثورة المصرية فكشفت عن سبق مكان وعلو مكانة له بين السياسيين والدعاة جميعا.
أُلقيت تلك الدروس في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين، وكان الشيخ حازم في ذلك الوقت في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات من عمره، وهو سن مبكر بالنسبة لقوة المعالجة لموضوع السيرة ولتنوع اهتماماته فيها، فالعادة أن الداعية يستخلص من السيرة ما كان أقرب إلى تخصصه كأن يستخلص المعاني التربوية إن كان من أهل التربية، أو الدعوية الجماهيرية إن كان من أهل الدعوة والعمل العام، أو الاجتماعية إن كان من أهل الإصلاح بين الناس أو بين الأزواج، أو السياسية إن كان من أهل متابعة السياسة وممارستها.. إلا أننا سنجد الشيخ في هذه السلسلة يطوف بتلك المعاني كلها، مما يدل على اتساع عقله وتنوع اهتماماته.
وهذا الكتاب فيه تصحيح صورة رسول الله ، نحسب أنه من أهم ما ينبغي أ أن يُقرأ بعناية واهتمام، إذ إن الصورة المغلوطة التي تشرّبها المسلمون عن نبيهم أسفرت عن تغييبه قدوة لهم في جميع أمورهم، حتى لقد صار يُكتب صراحة من أقلام محسوبة على الفكر الإسلامي أنه لا يقتدى بالنبي إلا في العبادات فحسب !!! وأولئك الذين يكتبون مثل هذه المعاني أو يحومون حولها يخطون تجارب سياسية بالغة الضرر حتى بالميزان السياسي المادي العلماني فضلا عن ميزان الدين.
أسأل الله تعالى أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم، وأن يفرج عن الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل كربته وأن يفك بالعز أسره من سجون المجرمين، وأن يمتعنا والأمة بطول بقائه وأن يكتب له عمرا مديدا وعملا سديدا وأمرا رشيدا.
مدخل إلى السيرة - ما لا نعرفه عن رسول الله:
إذا أردت أن تتحدث عن العقائد فإن الدعوة إلى العقيدة والاستجابة إليها في السيرة
النبوية..
وإذا أردت أن تتحدث عن الشرائع فإن إلزام الناس بالشرائع والتزامهم بها أمر قد ضمته
السيرة النبوية...
وإذا أردت أن تتحدث عن تربية المسلمين على الإسلام فإنه أمر تُعبر عنه أصدق تعبير
السيرة النبوية..
وإذا أردت أن تتحدث عن إقامة حكم ودولة للإسلام، فهذا هو الأمر الذي عبرت عنه واقعيا السيرة النبوية.. سيرة النبي هي العقيدة دعوة واستجابة وهى الشريعة إلزاما والتزاما، وهي التربية تربيًا وتربية، وهى إقامة حكم الله عز وجل في الأرض دولة وسياسة، بل هي كل قضايا
الإسلام.
ولذلك، فإن الدارسين للحديث لا بدّ أن يعلموا عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أي يوم من حياته قد قيل، والدارسين للقرآن لا بد لهم أن يعلموا عن الآية في أي يوم من أيام حياته نزلت، وحياته هذه هي السيرة النبوية، إذ القرآن والسنة نزولا وتطبيقا لا يستطيع المرء أن يتعرف عليهما أصدق التعرف إلا من خلال تعرفه بالسيرة.
السيرة هي تذوق الإسلام!
انظروا مثلا إلى آية نزلت في الجهاد في سبيل الله، يقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: ٤١]، أو يقول: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: ۳۹]، أو يقول: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: ٩٥]
أو يقول عن أعداء الإسلام {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: ١٠]، أو يقول عنهم: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: ٤٦].
هذه الآيات إذا سمعها مسلم يعيش اليوم في جو من السلم لا يسمع طلقات الرصاص يختلف لا شك عمن يسمعونها وهم في محنة أفغانستان أو الذين يسمعونها والقصف من فوقهم في سماء لبنان. وبالمثل، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى إذا سمعه المصريون اليوم فهو على خلاف سماع أهل البوسنة والهرسك اليوم له؛ سيكون له مذاق يختلف. بل إذا سمعه المصريون اليوم وكانوا قد سمعوه بالأمس قبل أن تقع أحداث البوسنة والهرسك أيضا يختلف. لماذا؟ لأن الآية أو لأن النص عموما مذاقها يتأثر بالجو المحيط بالسامع؛ إذا كان خائفا يستشعر آيات الخوف، إذا كان فرحاً سعيداً يستشعر آيات الحمد والشكر.
وهكذا السيرة في واقع الأمر هي تذوق الإسلام...
هل السيرة علم ؟!
قد يعجب بعض الناس: هل السيرة علم ؟ أم أنها قصة بدأت بمولد النبي أو قبل ذلك ثم تنتهي بوفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى ؟
أكاد أقول: إن تخلف المسلمين في تمسكهم بإسلامهم راجع إلى أنهم لا يَعُدُّون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم علما، بل يعدونها رواية!!
إنها علم، وعلم دقيق، علم في روايته وإسناده وضبطه علم في مدلوله وفقهياته ودلالته على علوم الإسلام من عقائد وغيرها.
وإذا كان ما تعلمناه عن الإسلام وشرائعه ومناهجه وواجباته يصل بنا إلى فهم أنه دين يشمل الحياة كلها ويوجب علينا العمل على نحو معين وينظم أهدافنا في الحياة، فسيأتي دور السيرة لتصوغ كل هذا فنعلم منها: ماذا علينا وماذا يجب، وكيف يكون ذلك. إن كل
مخرج خرج إليه رسول الله الا هو في حقيقة الأمر مخرج مرسوم لهذه الأمة إذا أرادت اليوم أن تنهض بنفسها وأن تعبد ربها وأن تحقق ما يريده الله لها.
ولهذا يطيب لي أن أُسميها "السيرة النبوية المُعلّمة؛ لأنها سيرة درست كل شيء: العقائد والشرائع والعبادات والأخلاق وصاغتها في صياغة واحدة.
الفصل الأول: صاحب السيرة
أننا سنقف في السيرة كلها مع رسول الله ، لكن يحتاج الأمر إلى إشارة عاجلة عن شخصية النبي. ذلك أن جمهور الأمة الإسلامية لا يعرف في الحقيقة من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلنكن صرحاء.. إن أغلبنا يعرف واقعة أو قصة، مثل جمعه الحطب، وأنه رحيم بالصغار، وكان رحيما بالكبار، لكن النادر القليل هو من يستطيع أن يُعبر عن شخصية رسول الله تعبيرا كاملا كأنك تراها. ذلك أنه لم يُقصد أن نتعلم ونعلم شخصية رسول الله ، بل مجرد شذرات تقال في المناسبات، فإذا أريد الحديث عن الرحمة استدعي من مواقف النبي ما فعله في الرحمة، أو أريد الحديث في العدل استدعيت مواقف العدل، أو الشجاعة استدعيت مواقف الشجاعة.. إلخ، أما أن تعلم كيف كان رسول الله بالكامل فهذا أمر مقصود أن لا يعرفه المسلمون.
لا بد أن نصحح هذه الصورة التي تنسب إلى النبي لحسن الخلق وسمو الطباع لكنها تجهل ملامح شخصيته، كيف يفعل إذا أقبل وإذا أدبر وإذا تصرف وإذا ما كان في موقف غضب أو موقف
رضا.. إلخ.
وأهمية التعرف على شخصية النبي هو في أنها تقربنا من حقيقته الكاملة، وذلك أن الشخصية الواحدة فيها متقابلات، فقد تجد إنسانا بالغ الحياء وهو - لهذا ليس شجاعا ولا مقداما، بل إن حياءه قد يؤذيه ويدفعه إلى السكوت عن منكر. وقد تجد إنسانا غضوبا للحق لا يقبل أن ينتهك الحق عنده ويثور لكي تعود الحقوق لأصحابها، ولكنه تَعَوَّدَ هذا الغضب فما يستطيع أن يكون رفيقا سمحا خلوا طيبا. ولذلك فمن القصور أن يتحدث الداعية عن الخُلُق الواحد فيستقر في أذهان السامعين دون أن يتحدث عن الأخلاق المقابلة التي قد تشتبه به أو قد تتعارض معه. ومن هنا فإن القلة القليلة هي التي تعرف على التيقن والحقيقة شخصية الرسول.
إن الداعية إذا تحدث مرة عن سماحة النبي ورحمته، ثم تحدث مرة أخرى عن زهده، ومرة ثالثة عن عبادته، ومرة رابعة عن شجاعته.. فإنه يخطئ حين يترك التوفيق بين هذه الأخلاق للناس دون أن يبين ذلك لهم. فالناس لا يستطيعون الجمع والمزج بين هذه الأمور كعلم يصلون به إلى الحقيقة. ومن هنا تفقد الأمة التصور الكامل لشخصية النبي فتفقد بذلك حسن الاتباع والتطبيق لقول الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةً} [الأحزاب: ٢١]. إذ كيف يعرفون الأسوة الحسنة؟!
ربما الواحد منهم يذهب إلى المسجد مبتسما ويصافح ويبش في وجه صاحبه، ويظن هذا تطبيقا لسنة اللقاء بالناس"، لكنه إذا عاد إلى البيت غضب ،وتجهم، ويظن أن هذا غضب للحق“، كأنما ليس في البيت سنة للقاء الأشقاء أو الوالدين، وكأنما ليس في الطريق أو المسجد غضبا لانتهاك حرمة الله
ولهذا ففي التعرف على شخصية النبي لا نعرف ونتعلم كيف نقابل بين الصفات لتخرج منها
مفهوما واحدا وصياغة واحدة ومعنى واحدا.
إن أكثر الذين يظنون أنهم يقتدون برسول الله لا يقتدون به إلا في المظاهر والقشور، وقليل جدا من الناس من اهتم بالاقتداء به في الأمور الكبرى.
انظر مثلا إلى كفاءة النبي، وانظر كم من يقتدي بها؟
قد يعجب الرجل برجل لصفاته الشخصية : هدوئه واتزانه وتبسمه وأدبه والتزامه بالمواعيد ولطفه.. لكن بمجرد أن يُكلف بعمل إذا بالعمل ينهار بين يديه، لأنه ليس كُفْئًا، لا يعرف كيف يدير العمل والعكس صحيح أيضا: فقد يعجب المرء بإنسان كفء تشهد له نجاحات العمل بالأرقام والأوراق، فما إن يلقاه حتى يجده سيئ الأخلاق، سليط اللسان أو كذابا أو منافقا أو لا يلتزم بالمواعيد. ولذلك لا ينبغي أن تعجب حين ترى هذه النماذج، ولا ينبغي أن تندهش كيف فشل هذا وهو صادق وأمين وملتزم وكيف نجح هذا وهو كذاب ومنافق. ذلك أن الكفاءة شيء والأخلاق والمميزات شيء آخر. ولذلك نخطئ جميعا حين نتحدث عن شخصية النبي فلا نذكر عنها سوى هذه الأخلاق والسجايا، ونخطئ حين نظن أن الاقتداء به هو في مجرد التحلي بهذه الأخلاق والسجايا، دون أن نتحدث ودون أن نتقدي بكفاءته. ولذلك تجد كثيرا من المسلمين قد يعجبون بنابليون بونابرت أو هتلر أو الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية أو غيرهم من الملوك والسياسيين والمصلحين، ولكنهم لا يفهمون - حق -الفهم لماذا نضع النبي على قمة هؤلاء، لأنهم لا يعرفون النبي . جانب الكفاءة.
في
إن المسلم يحتاج إلى أن يكتمل تصوره عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ، لكي يعلم كيف رباه ربه كما في الحديث "أدبني ربي فأحسن تأديبي، ونحن لن نفهم كيف أدبه ربه إلا إذا اكتملت لدينا صورة الشخصية، فالمرء فينا إذا حُدِّث عن غلام مؤدب : أخلاقه وكفاءته وعقله وأدبه وسلوكه ونجاحه، يتشوق ساعتها إلى أن يعرف كيف ربِّي هذا الولد، وكيف بلغ هذا.
فلهذا كان حريًّا أن نبدأ بوصف لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي نفهم كيف كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم يُؤدَّب ويُرَبِّي، ثم كيف كان يتولى الأمور.
صورة الكمال البشري .
إن بعض المسلمين يتوهم أن الرسول كان درويشا، إذا ظلمه أحد عفا عنه، إذا أغضبه أحد سامحه، وإذا رأى فقيرا أو جائعا أعطاه ،وأطعمه، يهش ويبش لأصحابه حتى إذا صافح أحدا منهم لم ينزع يده حتى ينزع.. وهكذا!
لكن إذا رجعنا إلى الحق، واستعرضنا وقائع السيرة سنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجلا فذا متفردا لا مثيل له، كان عقلية لو وضعت أمامها عباقرة العالم سواء في التاريخ القديم أو الحديث لرجحت بهم، وأقصد العباقرة في أي مجال السياسي، العسكري، الإداري، الإصلاحي.. إلخ.
كان شخصية ذكية متفردة، كان عالما مثقفا مدركا يفهم ما حوله، ويفهم المرامي البعيدة والأسرار كان ذا ذاكرة قوية نشيطا وافر المجهود، قويا محببا إلى الناس كان صورة متميزة عمن
حوله.
وكان في غاية النظام في كل كبيرة وصغيرة، يعرف خطوات طريقه، فما أوحاه الله إليه أدركه، وما تركه الله له من خطوات وتخطيط استعدّ له وعمل حسابه، ماذا سيفعل اليوم؟ وماذا سيفعل غدا؟ وماذا بعد غد ؟ وما الذي يؤجل ؟ وما الخطوات التي تُتَّخذ قبل هذه الخطوة؟ وكم يستلزم ذلك من الوقت؟.. وهكذا كان شخصية بمعنى الكلمة...
وهو - مع هذا الجد والنظام - رقيق العاطفة، لا يؤدي أعمال البر والرحمة لمجرد أنه منظم يوزع الحقوق كالبر بالزوجات والإحسان إلى الأطفال والرفق بالعبيد والفقراء، بل إنه يهتز من الرقة لمواقف إنسانية طبيعية قد يمر بها كل إنسان، فلقد بكى على قبر أمه وهو في الستين من عمره، بعد أربع وخمسين سنة من وفاتها، وينهمر الدمع من عينيه، فيقول له صاحبه: ما هذا يا رسول الله؟ فيقول: "إنها رحمة يودعها الله قلب من يشاء من عباده، والراحمون يرحمهم الرحمن، يبكي على أمه وقد مرت عليه عشرون سنة من النبوة لقي فيها الأهوال ويفرح بولده الطفل "إبراهيم" فرحة والد بولده، ويحمله ويهتم له، ثم لما تُوفّي هذا الطفل بكى عليه وقال إنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، وينتفض الولد انتفاضة الموت بين يدي رسول الله له فترى فيه الوالد والأب الكريم.
فلم يكن الأمر قرارا عقليا أو تنفيذا لتكليف بحسن الخلق، بل كان عاطفة تلقائية وفطرة
مودعة في قلب النبي ، وفي المقابل فإنك حين تنظر إليه وهو يبكي عند موت ولده إبراهيم تراه وقد جاء أسامة بن زيد - الذي هو حفيده في الميزان الجاهلي، لأنه ابن ربيبه زيد بن حارثة الذي اتخذه النبي ولدا له قبل أن يبطل الله التبني ورأى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من الحزن، فصرخ أسامة، فإذا به يوقف بكاء نفسه وينظر إلى أسامة ويقول: "يا أسامة، البكاء من الرحمة والصراخ من
الشيطان".
أي قوة تلك التي جعلته وهو في قمة انهمار العواطف في نفسه يقف ليصحح عقيدة أو ليصحح حكما شرعيا لأسامة ؟! ولا يشفع له أن الحالة حالة حزن ووفاة بل يدفن ولده وهو يردد: "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون. ولما كسفت الشمس في ذلك اليوم، وظنّ الصحابة - من الحزن - أنها كشفت لموت ابن النبي صلى الله عليه وسلم وحزنه عليه، وقف النبي : بين هذا الجمع وقال لهم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يَخْسِفان لموت أحد ولا لحياته". ولك أن تعجب في هذه الواقعة كيف كان النبي لا يتوقف - وهو في ذروة العاطفة - ليمنع من الزيع ويقول: إنها لم تكسف لأجل ابني وإنما هذه من آيات الله.
ولهذا كان رسول الله مثالا للكمال البشري..
كان رجلا يدرك شؤون المجتمع، يتمتع بكفاءة إدارية وسياسية وعسكرية واجتماعية، صاحب لأصحابه، زوج لأزواجه، أب لأبنائه، وهو في ذلك يبلغ الغاية، ثم هو مع الضعفاء من المسلمين فوق ما يُتَصَوَّر، وهو في نفسه رجل رحيم عادل وهو في كل حال متبع للشرع.
هذه إشارة سريعة إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التي لا نعرفها. فإنك إذا نظرت إلى نفسك وتفكرت: ماذا فعلت مساء الأمس، وماذا فعلت صباح الأمس... انظر إلى نفسك وأنت بعيد عن درس علم أو فعل خير، وقس نفسك على هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أَسْوَةٌ حَسَنَةُ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب: ٢١].. كم تبلغ درجة تأسيك بالنبي في هذه الأوقات؟!
لا شك أنها ستكون ضعيفة، وهذا لأننا لا نعرف النبي له جيدا، فلا نعرف كيف نتأسى به في كل أحوالنا، إن أغلبنا لا يعرف سوى ٢% أو ٣ من شخصية النبي فكيف نتأسى بمن لا نعرف؟
صفة النبي صلى الله عليه وسلم
عندما نصف رسول الله فإننا نقربه من القلوب، ونسير على ذات الطريقة التي قرب بها ربُّ العباد بعض أصفيائه وأنبيائه إلى الناس، فقد وصف القرآن صفاتِ بعض الناس كطالوت {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: ٢٤٧] ، وذي القرنين وغيرهم. ووصف النبي لأصحابه إبراهيم - عليه السلام- وموسى وعيسى وآدم ونوحا عليهم السلام.
إنك إذا نظرت إلى رسول الله وجدته جميل الهيئة، لم يكن قصيرا ولا فارع الطول، بل كان طويلا مهابا، وكان جماله جمال الرجال، فأنت ترى فيه رجلا مكتمل الرجولة، تأسرك وسامته إذ تشعر أنك أمام رجل عظيم.
وكان أسود ناعم الشعر، وله لحية كبيرة ناعمة سوداء، وكان النبي يُكْرِمُها ، وكان له شارب، وكان أبيض الوجه مشربا بحمرة، وكان إذا دخل على أحد هابه، ولكنها هيبة ممزوجة بحب وتعلق، فقد كان بَشاما بشوشا حلو الوجه، وكان دائم البشر، والبِشْرُ هو انطلاقة الوجه وانبساطه ويكون في كل حال سواء صحبه ضحك أو تبسم أو لم يصحبه أو كان الوجه جادا، وكان صادقا، إذا تحدثت إليه لا يلتفت إليك بطرف عينه أو بزاوية بسيطة بل يُقبل عليك ويلتفت إليك جميعا بوجهه وعنقه وصدره ينظر إليك ويستمع منك، والإنسان حين يجد من يحدثه مقبلا عليه مهتما به يدقق في
الكلمات أكثر، حتى إن المدرس يهتم بكلماته أكثر إذا كان يُدَرِّس لطلاب متفوقين ومنتبهين.
وكانت طريقة النبي هذه تعلم من أمامه أن يحترمه وهو يتحدث إليه، فيتحدث بحديث موقر طائب لا تلتبس عليه كلمة، وكان النبي إذا أقبل عليك لم يقاطعك أبدا، فتظل تتحدث حتى تنتهي، ولهذا لم يحدث أن ارتفعت عنده الأصوات على بعضها إلا في واقعتين نزل فيهما لوم شديد على المسلمين وإنما كان يسمع حتى ينتهي ،محدثه، فإذا تكلم هو لا يجرؤ أحد على أن يقاطعه، وكان كلامه مفصلا، وإذا أنهى كلامه سكت، ليس بثرثار.
وكان جادًا في مشيته، إذا سار كأنه منحدر من صبب وتلك علامة الرجل النشط أو المهموم أو المنشغل الرجل صاحب الهدف والغاية، الذي لا يلوي على شيء يعرض له، على عكس الفارغ أو الكسول فإنه يهتم بالمشاهدة والمتابعة ويلفت نظره أقل الأشياء، ولذلك كانت مشية الرسول تعكس شخصيته. وإني ألمح في هذا الوصف لمشيته فائدتين:
الأولى: أن المنحدر من صبب أي النازل من مكان عال- يسير بسرعة تتناسب مع هذا الانحدار، فلا يستطيع أن يتباطأ أو يسرع أكثر من اللازم، فإنه لو تباطأ أو أسرع تعثر، ونحن نعرف من أهل العلوم أن السرعة تتناسب طرديا مع مستوى الانحدار، فكلما كان الانحدار أكبر كانت سرعة المشي عليه أكبر، ومن هنا نفهم أن سرعة النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته هي التي تشعر حين تراها أنه لا يمكن أن يسير أقل منها ولا أكثر، بل على القدر الذى يقتضيه الحال، فلا تشعر في سيره ببطء أو بسرعة يلفتان النظر. وهذا هو السير الوقور المهاب الذي يحمل الناظر إليه على التقدير والاحترام.
والثانية: أنها المشية التي نعبر عنها الآن بأنها "المشية الرياضية التي تؤثر في الجسم، المشية التي يطلبها الأطباء من ذوي السمنة لكي تعتدل أجسامهم، لا المشية الرتيبة المسلية، فهكذا كانت صورة النبي في مشيته.
وبالعموم، فقد كان النبي إذا رأيته هِبْتَه ،وأحببته، وقرأت البشر والبشاشة والبسمة في وجهه، ثم وهذا مهم للغاية هو يلقاك فتلقى منه ما تحب. من المؤسف أنهم أوشكوا أن يُصَوِّروا لنا النبي زاهدا بمعنى أنه غير مهتم لشأن نفسه ولا يحفل بشيء من أموره الشخصية، والواقع عكس هذا، بل كان النبي كثير التعطر حتى يقول الصحابي: "كنا نعرف بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن يقدم علينا من فرط رائحته الزكية، فكان عطره يسبقه، وكان من لا يعرفه يحسبه بائع عطور، فكانوا يحبون رائحته الزكية. وكان يُرجل شعر رأسه، وكان يهذِّبُه ويقصّه.
وقد يتخيل البعض أن النبي كان مقتصرا على زي بعينه والواقع عكس هذا، فقد لبس النبي أنواعا من الثياب، فلبس جبة أهديت له من اليمن ولبس العمامة على رأسه، ولبس الخمرة -التي نسميها الغُتْرة ولبس القلنسوة، كما لبس ما جاءه من ثياب الروم ومن ثياب مصر، ولبس السراويل، وكافة ما كان في عصره من الثياب طالما كانت لا تخالف الضوابط ، فلا يُسيل ثوبه تحت الكعبين، ولا يلبس ثياب الشهرة، ولا ثيابا تعوقه عن العبادة، فقد جاءه يوما ثوبُ ضيق الأكمام فلبسه، فلما حضرت الصلاة عاقه ضيق الأكمام عن الوضوء، فشقّ هذه الأكمام ليتوضأ نعم، كان بإمكانه أن يخلعه لكنه أحب أن يكون ذلك تدريبا لهذه الأمة، فيكون ارتداؤه أولا دليلًا على جواز لبسه، ويكون شقه تعليما للأمة ألا يعوقها شيء عن حسن العبادة وصدقها فرآه الناس وهو يرتديه كما رأوه وهو
يشقه ليتم له الوضوء. فيكون الدرس: البس ما تشاء، لكن لا تلبس ما يقيدك في العبادة.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
وكان مع حسن مظهره وثيابه بسيطا غير متكلّف، وكان العطاء قريبا إلى شخصيته، رآه مرة رجل وعليه ثوب أهْدِي له، فقال له: يا رسول الله، أعطني هذا الثوب، فخلعه وأعطاه إياه، فليس معنى الاعتناء بالمظهر أن يُهمل الفقراء والعرايا والجائعين، بل طالما وجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يُعطى فإنه يعطيه، وما دام يجد ما ينفق منه فإنه ينفقه... وهكذا!
وكان مع هيبته متواضعا خفيض الجناح، لما دخل عليه رجل فارتعد منه، قال له النبي D: "هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة، والقديد: هو الخبز الجاف الذي يدخرونه، فانظروا كيف يذكر حال الفقر التي كانت فيها أمه لكي يُهدِّئ من رَوْع الرجل ويُظهر له أنه ليس ملكا ولا ينبغي له أن يرتعد أو يخاف. وذات مرة أقبل رجل يريد أن يُقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي "لا تعاملني كأني ملك من الملوك أو سلطان من السلاطين وإنما أنا كذا وكذا . ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على المجلس ذات يوم فهَبوا له وقوفا فقال لهم: اجلسوا، وكرر هذا المعنى.
ولسنا هنا نتحدث عن الحكم الفقهي لهذه الأفعال، فإنه يجوز الوقوف للقادم، ويجوز تقبيل أيدي العلماء والصالحين، ولا حرج على النفس إن داخلتها الهيبة من أحد، لكنما نتحدث عن شخصية النبي وصفاته.
ولذلك انظر إلى حب الناس وتقديرهم للنبي، ولن أحدثك عن حب أبي بكر وعمر وكبار الصحابة له، بل هذا أبو سفيان وهو قائد جيش المشركين المحاربين للنبي - لما التقى النبي للمرة الأولى بعد الهجرة، وكان ذلك قبيل فتح مكة، رجع يقول: "لقد أتيت الملوك.. كسرى .. قيصر .. فما رأيت أحدا يحبه أصحابه قط كحب أصحاب محمد محمدا، إذا توضأ بادروا إلى وضوئه .... وهذا سهيل بن عمرو الذي كان رئيس وفد التفاوض في صلح الحديبية والذي أصر على أن يمحو من الوثيقة كلمة محمد رسول الله، كان بعد إسلامه ما يقع من رسول الله له في الوضوء قطرة ماء إلا ويمسكها ويمسح بها وجهه ورأسه وثوبه تبركا وحبا لرسول الله . بل كان النبي إذا عاد من غزوة فإن أول من يستقبله الأطفال، ويقبلون عليه، وهو يداعب هذا ويداعب هذا، فكأن عودته هي فرحة عامة بينه وبين الأطفال.
وكان النبي صاحب ذوق عالٍ وأدب رفيع، أو ما نسميه الآن البروتوكول" أو "الإيتيكيت“، الذي يُعَلِّمونه الآن لبعض الناس، كيف يأكل وكيف يشرب وكيف يخرج وكيف يعطس وكيف يتثاءب.. كل هذه الأمور - لو نظرتم - ستجدونها في سنة الرسول، ولا أقصد هنا سنته أ ، أي تعليماته وتوجيهاته للناس، بل أقصد حاله هو نفسه، ففي التثاؤب - مثلا - كان يوصي أن يكظم المرء تثاؤبه ما استطاع، حتى لا يكون هذا علامة على الضيق والضجر من الضيف أو الصديق أو علامةً على استثقال المجلس والرغبة في انتهائه. ولهذا قال النبي "فليكظم ما استطاع، فإذا غلبه التثاؤب فليضع يده.... "، وفي العطس أيضا يتكرر ذات التوجيه.
وكان حريصا على سنن الفطرة، فلا يطيل شاربه كما يفعل أحبار اليهود- بل كان يقصه حتى كأنه حد واحد يروق من يراه، وكان يكرم لحيته، ويرفع الشعر الزائد من جسده، ويزيل العرق، يحلق العانة وينتف الشعر تحت الإبطين، ويقص الأظافر، فتخيل أنك تجلس إلى رجل بهذه الصورة، ويفوح منه العطر، وشأنه كما وصفنا في الكلام والتبسم والبشر والإقبال، لا ينزع يده حين تصافحه حتى تكون أنت الذي ينزعها، يعطيك شعورا بأنه يشتاق إليك ويفرح برؤيتك!! وكان مما أعطاه الله له أن يده لو كانت تكون باردة في الصيف ودافئة في الشتاء وهو بهذه الحال يظل لا ينزع يده من يدك حتى تنزعها أنت.
وكان يجلس وسط الناس، لا يتفضل عليهم في المجلس بل يكون بينهم كأحدهم، فلا يعرفه الداخل من بين أصحابه، بل يسأل: أيكم محمد ؟ ، ولا يتميز عليهم لا فى ملبس ولا في جلسة ولا في عظمة، وإنما هو واحد منهم، ومع ذلك له فيهم هذا المقدار.
وكان حَسَنَ الصحبة، فإذا كان مع صحابته في دخول لا يكون أول الداخلين، بل يدفع أصحابه بين يديه ويُدْخِلُهم ويدخل بينهم كأي واحد منهم.
وإن العجيب في أخلاق النبي أنها دائما في درجة المثالية المطلقة، فلم يحدث مرة أن أخرجه الغضب عما ينبغي له. فقد أرسل يوما خادمه أنس بن مالك لقضاء شيء، فوجد أنس - وكان غلاما - الصبيان يلعبون فترك ما خرج لأجله ولعب معهم حتى نسي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول: "يا أنيس، اذهب إلى حيث أمرتك، فانظر إليه يقول له ملاطفا ومداعبا "يا أنيس"، فهل هذه هي العقوبة لخادم ترك شأنه وأخذه اللعب؟!!
يقول أنس: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين وهي السنين التي تتغير فيها أطوار حياة الإنسان، فكان طفلا عندما بدأ الخدمة ومرّ بمرحلة المراهقة، ثم مرحلة الفتوة ثم الشباب من سن عشر سنين إلى عشرين سنة، وهو سن المراحل المتقلبة، أي أنها أصعب عشر سنوات في حياة الإنسان، في هذه العشر يقول أنس: "خدمت رسول الله له عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ولا قال لي لشيء لم أفعله لم لم تفعله.
وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم قصة مع طفل صغير هو أبو عمير، وأبو عمير هو أخو أنس بن مالك، أي أنه أخو خادم النبي ، فقد ذهب النبي ذات ليلة ليزور خادمه في بيته ويتفقد أمره وأمر أهله ويحنو عليهم ويتعرف أحوالهم، وهناك وجد أبا عمير قد انتحى في الدار ناحية وهو حزين، فقال لهم: ما بال أبي عمير؟ فقالوا له: كان عنده طائر صغير اسمه النغير قد مرض فحزن لمرضه -وقد مات هذا الطائر فيما بعد- فذهب النبي إليه وظل يداعبه ويمسح على رأسه ويقول له: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ فظل أبو عمير يروي لرسول الله صلى الله عليه وسلم قصة عصفوره النغير!
هذا هو الخُلُق الذي كان يتعامل به النبي صلى الله عليه وسلم مع خادمه وأهل خادمه.
وكان كالأب الحنون لمن كانت حاضنته أم أيمن، وهي الجارية التي تعهدته بالتربية من أثناء وبعد وفاة أمه، فلم يعاملها على أنها مجرد جارية تأخذ أموالا مقابل خدمتها فقط، بل كان إلى آخر حياته يزورها في بيتها ويحنو عليها، ولما وجدها وحدها بعد أن مات زوجها كان يبحث لها عن زوج ويقول الصحابته: "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن، ويتولى رسول الله بنفسه أمر تزويجها، وزوجها من زيد بن حارثة - الذي كان يُلقب بحب رسول الله - وأنجبت أسامة بن زيد الذي لقب بالحب بن الحبّ، والذي لما حاول قوم أن يتشفعوا في مخزومية سرقت لم يجدوا إلا أسامة ليتشفع لمكانته عند رسول الله ، فتأملوا هذا ابن عبده العتيق وابن جاريته العتيقة، كيف كان موقعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
وقال لجارية ذات يوم، وقد تأخرت عليه في أمر وهي تلعب "لولا خشية القَوْد (أي: القصاص) لأوجعتك بهذا السواك ولو أنه فعل هذا مع حرّ - لا جارية - ما كان مُسْتَنكرا، لكن هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ درجة عالية من درجات الرفعة بين قومه.
هذه الرفعة عادة ما تغير المرء، فيتعامل بمقتضاها، كأن يطلب ممن حوله أن يحملوا له شيئا أو يخدموه بشيء، إلا أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليها شيء عجيب من التواضع، تواضع يبلغ درجة الظن أنه هو المسئول أن يحمل لغيره أو يقدم لغيره المنفعة، ومن هذا أنه ذهب يوما إلى السوق، فمد أبو هريرة يده ليحمل عن رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "صاحب الشيء أحق بحمله، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملا أغراضه وأبو هريرة إلى جواره لا يحمل شيئا.
ومن تواضعه أن أتاه رجل بهدية بسيطة، فَخْذِ أرنب (أي ربع أرنب)، فهش له النبي صلى الله عليه وسلم ، وصار كلما لقي الرجل يقول: "هذا رجل أهدى إلينا. وجاءه يوما عبد فدعاه إلى طعامه، فانطلق معه رسول الله ، فيشعر الرجل أنه قريب حقا من قلب رسول الله . وكانت تأتيه امرأة ضعيفة العقل فتأخذه بعض النهار، فيمضي معها، فتُمسك بطرف ثوبه وتذهب به إلى بعض أطراف المدينة، وتحادثه وهو مُنْصِتُ لها بغير أن تشعر منه بضجر أو ملل. وإذا كان هذا تصرفه مع المرأة ضعيفة العقل فكيف هو مع أسوياء العقل من الرجال والنساء ؟!
يصح
هذا الخُلق العالي يشعر الإنسان معه أنه ضائع حقا، نحن كالضائعين، ولذلك لا نصل إلى أهدافنا. وفي ظل هذا الخلق كان لا بد للقرآن أن يتنزل وينهى عن الطمع في حسن خلق النبي، فلا أنه كلما عن أحد شيءُ ذهب إلى رسول الله فأفضى إليه بحاجته والرسول صلى الله عليه وسلم من فرط حسن أخلاقه لا يمتنع عنه، فأنزل الله قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرُ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة: ۱۲] ، فصار ينبغي على الذي يريد مناجاة الرسول أن يقدم صدقة أولا ربع درهم مثلا على فقير شيء أشبه بالرسوم، لكن لا يُدفع للنبي بل للفقراء، وذلك قبل أن يمضي إلى النبي، فانتبه الناس إلى أنهم كانوا يزيدون في مناجاة الرسول، ولم يلبث أن نُسخت هذه الآية ولم يُعمل بها من بعد، ونزل قول الله تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْلَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: ۱۳] فصلح الحال من بعد ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق وقته ولا يردّ أحدا.
وهنا يسأل سائل: فما بال النبي قد عبس وتولى في وجه الأعمى، مع حسن أخلاقه هذه؟
أولا: الأصل أن عبد الله ابن أم مكتوم هو من كان ينبغي عليه أن ينتظر النبي حتى يفرغ من حديثه مع ملأ قريش، ترى لو جئتني وأنا في حديث مع آخرين، ثم اقتحمت على الكلام وسألت عن أمر لا يتعلق بما كنا نتحدث فيه، هل أكون مخطئا لو أني تضايقت من ذلك؟ وربما أكون في منتصف الإجابة أو قبل نهايتها بقليل.
وثانيا: أن النبي .
لم يقع أبدا في أي نوع من الإساءة أو قِلَّة الخُلُق - حاشاه- بل إنه لم يقل
له: انتظر! وإنما عبس في وجه أعمى، أي أن الأعمى لن يرى هذا العبوس أصلا، إن عبد الله ابن أم مكتوم لم ير عبوس النبي، ولم يقع له أي ضرر نفسي والجزء الذى يتعلق بالإرضاء النفسي لعبد الله ابن أم مكتوم بصفته أعمى حصل فعلا، فقد سأل فأجيب!
فلماذا إذن عاتب الله نبيه في هذا؟
والإجابة:
أولا: إن أصدق ما قيل في هذا أن الله يصحح لنبيه الفهم، ويضع مقياسا جديدا في الدعوة، ذلك أن خُلُقَ النبي البالغ الرحمة والحرص وصل به إلى فوق ما هو مطلوب منه في دعوة المعرضين، فكأن الله تعالى يقول له: ليس مطلوبا منك أن تبذل كل هذا في دعوتهم حتى الإعراض عمن جَاءَكَ يَسْعَى (۸) وَهُو يَخْشَى [عبس: ۸، ۹] ، فإن هذا هو الأولى. فذلك تصحيح للفهم والمقاييس. وثانيا: أن الله ذكر في كتابه وعاتب نبيه على شيء لم يره أحد، بل هو شيء في عالم السرائر، فأراد أن يصحح له أنه لا يليق بالنبي أن يعبس ويتولى عن الرجل الأعمى من المؤمنين ولو قطع عليه الحديث مع المشركين، فليس عليه أن ينشغل بالمشركين المعرضين عنه وإنما عليه أن ينشغل بالمؤمنين المقبلين عليه. فالمسألة ليس فيها أي نقص أخلاقي من النبي حاشاه - فإنه أراد أن يقول "ليس هذا وقته“، وهذا صائب في ميزان الأخلاق وإنما المسألة تصحيح فهم.
لقد تولى الله تربية رسوله بنفسه، فتدخل لكي يصحح له المقاييس فيرشده إلى أن هذه زيادة في الرحمة غير مطلوبة، مثلما حدث في قصة أسرى بدر، فقد عوتب النبي لما عنده من زيادة الرحمة إذ أراد أن يعفو عن الأسرى. نعم.. إن خلق العفو خلقُ عظيم، لكن لأن الله يتولى تربية رسوله بأخلاق هي كان خلقه القرآن“، كان يحدد له هذه القيم، فهو تصحيح لفهم الأمة ولفهم الرسول للأخلاق التي يرضاها الله، وليس تصحيحا لسوء خلق أو قلة خلق -حاشاه- فالآية نزلت لمعالجة فهم لا لردّه عن قصور.
ونعود إلى حديثنا فنقول:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حَيِيًّا صادقا، لدرجة أنه من شدة حيائه ما رُؤى أبدا بين أصحابه ماذًا رجليه، إنما كان يقبضها، ولم يكن ينظر إلى أحدٍ نظرة تحدٍّ، "لا يحد البصر إلى أحد"، ولم يكن يتكلم جالسا بينما أصحابه وقوف حوله، بل كأنه واحد منهم، بل هو الذي كان يخدمهم، وقصته مشهورة حين كانوا في سفر وجاعوا، فذبحوا شاة، فقال أحدهم: علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر: علي شيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب، وأنت إذا تأملت ستجد أنه اختار العمل المتطلب للحركة والنشاط، إذ يقتضى ألا يجلس ولا يكون في ظل ولا مقام، بل يسير بين الجبال والتلال والكثبان والرمل، يلتقط الحطب ويختبر الواحدة منها فإذا لم تصلح بحث عن غيرها، وهو أيضا أكثر الأعمال شغلا للوقت، فربما قضى الساعة أو الساعتين في جمع الحطب الكافي. ولما قالوا له: لا نكفيك ذلك يا رسول الله. قال: أعلم أنكم تكفونني، ولكني بشر مثلكم أخدمكم كما تخدمونني. وإني أتخيل الصحابي وهو في قمة الخجل من رسول الله الذي يمر ليجمع الحطب وهو في مكانه.
وفي الغزوات كان النبي كواحد منهم يمشي ثلثي الطريق ويركب الثلث، وهو إذ يمشي فإنما يمسك بخُطام الناقة والصحابي راكب عليها. وتأمل فهذا الحال على طول ثلثي الطريق وليس ثلثي ساعة مثلا، وإذا قيل له: يا رسول الله، تركب؟ قال: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما، وقد وصلت مسافة الغزوة في بعض الأحيان إلى فوق الخمسمئة كيلو متر، ولقد كان قويا، ويفعل ما يعجز عن فعله أشداء الرجال.
وفي وقت سابق صارع النبي رجلا فتيا معروفا في العرب اسمه ”ركانة“، وكان لا يغلبه من العرب أحد، فصارعه النبي فلم يكن إلا قليلا وصرعه النبي وصار ركانة صريعا على الأرض، فلم يصدق ركانة ما حلّ به فطلب التصارع ثانية، فصرعه النبي، فطلب ذلك ثالثة، فصرعه النبي م، فقال ركانة : أشهد أنك رسول الله فقد أدرك أن الأمر غير طبيعي.
وإنما أقول هذا الكلام لأصحح الصورة المغلوطة، فلم يكن النبي داعية جالسا على المنبر مهتما بهندامه وصنعة الكلام بل هو يدعو إلى الله بكل طريقة، فيستعمل القوة مع من يناسبه مدخل القوة، ولذلك فإنه شخصية قديرة تتمتع بالكفاءة والموهبة.
وهذا سيدنا علي بن أبي طالب في إحدى الغزوات أرادوا أن يقتحموا حصنا، فحمل باب الحصن وحده وألقاه، ثم لم يستطع أن يحرك هذا الباب من بعده إلا ستون رجلا، فأراد سيدنا علي أن يحمل النبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لن تستطيع"، فأصر علي على ذلك، ثم حاول ثلاث مرات ولم يستطع !!
إنه لا بد أن ننتبه إلى أن الأمور لم تكن تسير هكذا بالدروشة ولا بالسذاجة، بل إنها خصائص
النبي الرسول
وفي واقعة أخرى قال علي بن أبي طالب أنا فارس العرب، أنا الذي لم يغلبني أحد، فقال له النبي "بل ثمة من يغلبك قال: من؟ قال: فارس خلف هذا التل فانطلق إليه، فإن صرعته كنت أشجع العرب. وكان سيدنا علي بن أبي طالب له ضربات تسمى "الأبكاري“، أي أنها ضربة بكر، ضربة قاضية. فلما ذهب علي بن أبي طالب وجد فارسا ملثما، فبارزه فغُلِب علي ثم قام مرة أخرى فغُلِب! ثم مرة ثالثة فغُلِب فقال: أقسمت عليك بالله إلا كشفت وجهك فكشف وجهه فإذا به رسول الله، وقد أراد ألا يوقع الهيبة في نفسه، إذ لو عرف علي أنه رسول الله ما اجترأ على منازلته بذات القوة.
ومن هنا ندرك أن إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة لم تكن لخُلُق دون خُلُق، بل هو إمام في قوته وفي علمه وفي حكمته وفى عقله وفى خبرته وفى فطنته وفى خلقه وفي كل شيء، يتصاغر المرء أمام هذه الشخصية.
لقد كتب بعض المستشرقين أن محمدا ليس بشخصية تصلح للقيادة، بزعم أنه اشترك في حرب الفجار ولم يضرب بالسيف لأن خُلُقَه لا يسمح له أن يحارب بسيف، فهو أقرب إلى الحلم وإلى السماحة، فليس قويا وليس عنيفا، وإنما اشترك في الحرب بحمل السهام للمتحاربين، وهذا غير صحيح؛ بل كان النبي - في غزوة بدر - أقرب الناس إلى المشركين، وفَرّ كثير من المسلمين في أحد فصمد في قلة معه، ، وكان في غزوة الأحزاب ممن يحفرون الخندق، وفى غزوة حنين يفر الناس ويبقى هو في المقدمة ومعه عشرة ولولا ذلك لما انتصر المسلمون. وقال على بن أبي طالب: كنا إذا حمي البأس واشتد الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم من العدو فلا يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه، فهو الأول في حالة الاشتباك العسكري وحين تقع المعمعة كما في غزوة أحد وكما صاح في غزوة حنين: "أنا النبي لا كذب، وهكذا إذا لم تسر الخطة كما أعد لها كان يتقدم الصفوف، ويوقف بهذه القوة والشجاعة زحف المشركين.
وهنا أعود إلى قوله لستم أقدر على المشي مني ولست أغنى عن الأجر منكما، إن المرء لا يتخيل أنه راكب على الجمل والنبي يمسك بخطام الناقة يسوقها، كيف تحتمل النفس أن يفعل هذا معه سيد الخلق الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه، كيف يعامله بهذه الصورة العجيبة.
ومن العجيب كذلك أن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم الشريف القرشي والعبد الحبشي والعربي والأعجمي والصغير والكبير، وكلُّ منهم يرى لنفسه منزلة خاصة فوق منازل الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يراه من تعامله معه ولطفه ومداعبته، فهذا أبو هريرة يُغَيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمه من عبد شمس“ إلى عبد الرحمن، ولما رآه يحمل قطة يلاعبها قال له: ما هذه يا أبا هِرّ؟ فصار يلقب بأبي هريرة، فأحب هذا الاسم وصار اسمه ولم يعد اسمه "عبد الرحمن مشهورا.
وذهب النبي يوما إلى بيت ابنته فاطمة، فسأل عن علي بن أبي طالب، فقالت له: ذهب مغضبا، فخرج النبي يبحث عنه ليطيب خاطره ويصلح بينه وبين زوجته فوجده نائما في المسجد، والذي كان مفروشا بالحصباء والرمال والتراب، فوجد أن لحية علي قد أصابها تراب، فأيقظه النبي وظل يمسح التراب عن وجهه وهو يقول: قم يا أبا تراب، فيظل على يروى هذه القصة ويقول خصني رسول الله بخصائص لم يخص بها غيري ويذكر من ضمنها هذه المداعبة الرقيقة اللطيفة وكنيته الجديدة.
لقد كان الناس يهابون عمر بن الخطاب رضي الله عنه - لشدته، بينما تجد مهابة الناس للنبي لم تكن لشدته، وإنما للكمال في شخصيته، ولذلك فإن أكرم الناس هو من يرى الكريم يعينه ويقربه فيزداد له حياء وخشوعا وأدبا، فهذا هو الأدب العالي الذي يجب علينا أن نتعلمه.
إن كل هذه المهابة وكل هذا الحب للنبي مع تقربه من الناس يدل إلى أي مدى أجاد النبي في إقباله على المسلمين، فقد كان متفردا بينهم وهو : كأحدهم.
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين يساق واحد من الناس إلى المحاكمة بتهمة السرقة، فيأتي الشاهد فيقول: لقد رأيته يسرق فيغضب النبي ويتمقر وجهه ويقول: هلا قلت رأيته يأخذ؟
تأمل هذا الفارق الدقيق، ينبغي أن لا يقول رأيته "يسرق" بل "يأخذ" فلربما أسفرت القضية عن شاهد آخر يقول: إن الذي أخذه هو ملكه، أو أنه مكلف من قبل فلان بأخذه، أو غير ذلك. فلا يكون الشاهد قد ظلم المتهم. هذا الحرص من النبي هو السياج الذي كان يحمي به المجتمع الذي يسبغ
عليه الرحمة.
وتأمل هذا الحرص على بيته ومع أزواجه، لقد حَدَثَت في بيت النبوة أزمات، بعضها شديد إلى درجة أنه أشيع بأن النبي طلق زوجاته جميعا، وذلك أنهم اجتمعوا يطالبون بزيادة النفقة التي لا تكفيهن، فيما يشبه أن يكون مؤتمرا، وكان يبتسم ويضحك، ثم أصابه الهم من هذا الأمر حتى نزلت آيات شديدة تقول لهن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (۲۸) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِّلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: ۲۸ ۲۹] انظر إلى التخيير بين إعطائهن المال مع تطليقهن، لأن المرأة التي ليست لها عزيمة بيت النبوة لن تبقى فيه وبين أن يصبرن مع الوعد بالأجر العظيم في الآخرة.
هنا جاء أبو بكر - وابنته هي عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "يا رسول الله، لقد جئتك من عند أم فلان زوجته - جاءتني تسألني النفقة فوجأت عنقها (أي: ضربتها)، فسكتت، فضحك النبي حتى بدت نواجزه، من البشر وكان إذا استبشر عرف في وجهه تلألؤ السعادة والبشر- وقال له: يا فلان ها هن حولي يسألنني النفقة، فقام الرجل إلى ابنته يريد أن يجأ عنقها، فقام النبي فحجزه عنها، ثم خرج أبو بكر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أرأيت حين كان يريد أن يضربك ماذا فعلت؟"، يريد أن يقول: لقد حجزته عنك، فضحكت، فدخل أبو بكر في هذه اللحظة فوجدهما يضحكان فقال : أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب، فقال: نعم. فدخل.
هذه الصورة اللطيفة أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم في وسط الأزمة، ولذلك لم تتفاقم المشكلة ولم تطلب
زوجة السراح.
وفي يوم آخر عقدوا مؤتمرا آخر وقالوا له جميعا وفي هذا المجلس: من أحبنا إليك. وهذا يدلك على ذكاء النساء، إذ يجوز الكذب على الزوجة كأن يقول الزوج: أنت الأجمل، أو أنت الأحب إلي، ونحو ذلك. فلما اجتمعن جميعا معا، سألنه هذا السؤال، فقال لهم: غدا أخبركم.
إنه من العجيب لرجل في مثل همّ الرسول صلى الله عليه وسلم وحاله أن يستجيب لهذه الأمور، فلم يقل لهم مثلا: ما هذه التفاهات؟ وهو المشغول بأمور فارس والروم وقريش وغطفان والصحابة والتربية والجهاد وقيام الليل، لم يقل لهم: ألا تُقدِّرون ما أنا فيه من المشاغل ؟! لم يترك لهم البيت! بل أجابهن لما أرادوا ، ثم طاف عليهن بالليل فأعطى كل واحدة درهما على وعد بألا تخبر أحدا، فلما اجتمعن من الغد وسألنه من أحبنا إليك؟ قال: صاحبة الدرهم، فظنت كل واحدة أنها هي.
واعجب أكثر من رجل مثله يأخذ زوجته في رحلة خلوية، يخرجان بعيدا عن الناس ويتسابقان، فتسبقه، وفي المرة الثانية - وهو في التاسعة والخمسين من عمره - يخرج مرة أخرى معها في رحلة خلوية فيسبقها، فيضحك ويقول: واحدة بواحدة. فتأمل كيف ينشغل بجهاد الكفار والمنافقين وبخفض الجناح للمؤمنين وبتربية الأمة والحكم والشرائع والوحي وقيام الليل، ومع هذا لا يفوته أمر كالخروج مع زوجته في رحلة!!
وفي جلسة أخرى يجلس إلى زوجته فيحكي لها حكاية أم زرع وهي حكاية إحدى عشرة امرأةٌ اجتمعن وحكين لبعضهن عن أحوال أزواجهن فكأنما هي حكاية من إحدى عشرة حلقة. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شأنه.
صلى الله الكفاءة الإدارية للنبي
حين تبحث في السيرة تجده لا يدير عملا إلا ويخرج على قمة ما يخرج عمل على الإطلاق.
فلقد ظهرت الكفاءة الإدارية للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها، حتى في وقائع صغيرة تدل عليها بصورة جلية، ففي غزوة الأحزاب -مثلا- تعامل مع فكرة الخندق التي لم تنبع منه هو، بل أتاه بها واحد من الناس، فقبلها ونفذها بل جمع الأمة كلها على تنفيذها رغم أنها ليست فكرته. ثم انظر كيف أدار النبي تنفيذ هذه الفكرة: لقد رسم المدينة أولا وضبط حدودها وحدد المكان الذي سيحفر فيه الخندق، كل هذا قبل أن تنطلق أول ضربة فأس، وهنا يبدو الفارق بين عمل المحترفين المنظم المخطط وبين عمل الدراويش المتعجل السطحي المتواكل، بين من يريد أن يؤسس للإسلام دولة
وبين من غايته حضور جلسات دعوية أو علمية فحسب.
لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيل الخندق وقت الحفر والزمن الذي يستغرقه وأبعاده: طوله وعرضه وعمقه، وأين يذهب التراب الناتج عن الحفر والقوة البشرية التي ينبغي أن تعمل فيه: عددها ومهماتها - إذ لن تعمل كلها في الحفر، وإنما بعضهم في رفع التراب وبعضهم في نقله - ومراحل حفره، وقسم الناس إلى مجموعات، وحدد لكل منها نقاط البداية والنهاية، وكان تقسيمه للمجموعات على أساس يحفزهم على العمل بمعنى أنه تقسيم قبلي يعتمد على إثارة التنافس
بين القبائل، فلا يضطر معه أن يستحثهم لأن التنافس يقوم بهذا الدور التحفيزي بطبيعته.
ثم بقي في الناس من ليست له مجموعة، مثل بلال فهو حبشي، والأحباش ندرة وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، وهؤلاء لا عشيرة لهم، فكان من حكمة النبي أن رفعهم إلى سماء الهمة حين جعلهم معه. انظر إليه وقد سأله الناس: يا رسول الله، فمع من يكون سلمان؟ فيقول: سلمان منا آل البيت"، فإذا بهذا الصحابي الجليل يرتفع إلى درجة أنه في الفرقة التي هي آل بيت رسول الله، فتصور كيف رفعه النبي من حاله التي كان فيها عبدٍ يُباع ويُشترى ولا عشيرة له إلى أشرف الأنساب على الإطلاق، وإلى الفرقة التي يقودها قائد الأمة في حفر الحندق! ثم تصوّر بعد هذا كيف ستكون همته وطاقته في العمل والبذل.
كل هذه العملية يذكرها الخطباء والكتاب في سطر واحد أو عبارة واحدة: حفر الخندق. بينما ينبغي أن يتعلم المسلمون كيف أدار النبي صلى الله عليه وسلم عملية حفر الخندق.
وثمة أمر آخر لا بد من لفت النظر إليه أنتم تعلمون أن الأطباء حين يُجرون العملية الجراحية، فإن الفريق الطبي الذي يساعد الجراح يقوم له بالأعمال التحضيرية مثل: تجهيز الأدوات وتعقيمها وحلق شعر المريض وإلباسه الثوب المعقم ووضعه على سرير الجراحة وتخديره وتجهيز الغرفة... إلخ. هذه العمليات يسمونها "الأعمال القذرة Dirty Work لأنها الأعمال التي لا تحتاج إلى مهارة الجراح العبقري الذي سيُجري العملية الجراحية، ولهذا فيُعهد بهذا لمن ما زال صغيرا في مهنة الطب أو لفريق التمريض وهكذا.
لقد حدث هذا في حفر الخندق، لقد رأى بعض الناس أن عملها أقل من عمل غيرها، فالذين يحملون التراب مثلا أو يحضرون الفؤوس أو ما شابه رأوا أنهم في رتبة أدنى ممن يحفرون الخندق، فإذا برسول الله يختار لنفسه عملا ضمن هذه الأعمال التحضيرية، لماذا؟
ليجعل همة الذين يعملون في هذه الأعمال في السماء، فكان يُرى سيد خلق الله صلى الله عليه وسلم الذي قارب على الستين من عمره وقد شابت بعض الشعر في رأسه ولحيته وهو يحمل هذا التراب، يجلل لحيته ورأسه، وينقله بهذه الصورة.
ثم هو حاضر كذلك في العمليات الصعبة، فحين واجه الذين يحفرون صخرة لا تنكسر، جاءوا إليه، وقالوا: يا رسول الله، اعترضتنا صخرة فأقبل - وكان قوي البنية لا يماثله أحد في قوته ويقول: الله أكبر، ويضربها فتتفتت تحت يديه، ثم هو بعد أن يؤدي المهمة الشاقة التي لا يستطيعها أحد، يعود إلى عمله الأول هذا.
والمقصود من كل ما سبق دون أن نطيل في ذكر التفاصيل - أنه حول عملية حفر الخندق إلى عملية إيمانية تربوية من أعلى درجات الإيمان والتربية، وعلى مثل هذا كانت سائر الأعمال:
ففي الهجرة كان تخطيط النبي يدل على رجل كفء يفهم الوضع جيدا، يفهم جهات الشمال
والجنوب، ويسير إلى الجنوب في حين هو يهدف إلى الشمال بغرض تضليل من سيتعقبه، ويأتي بمن ينقل الأخبار، ومن يُعفّي على آثار الأقدام، ومن يأتيه بالطعام، وحين لم يجد من المسلمين دليلا يدله على الطريق اختار واحدا من المشركين ولكنه يعرف صفته وأنه أمين في عمله وإذا أخذ أجره لم يُغش السرّ. وحتى في ردّ الأمانات لم يكن الأمر كما يظن الكثير - أنه فعل ذلك لمجرد أنه أمين، فلو كان الأمر مجرد الأمانة لردّها إلى أصحابها قبل الهجرة بأيام، ولكن لو أنه فعل ذلك لعرف الناس أنه يرد الأمانات مما يشير إلى أنه بصدد عمل ضخم سوف يقدم عليه. لقد رتب أمورا كثيرة: الطريق والراحلة والأموال ومن يسبقه ومن يلحقه.
لم يكن الأمر مجرد حضور الصلوات والدروس والمساجد، لا.. بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أصحابه حق المعرفة، فيقول: فلان أقضاكم، فلان أقرؤكم للقرآن فلان أعلمكم بالفرائض، فلان سيف الله المسلول، فلان أسد الله... وهكذا حتى في الآذان قال للرجل: انطلق به إلى بلال فإنه أندى منك صوتا! إننا نعرف الآن أن بلال بن رباح صاحب صوت حسن لأنه صار المؤذن، لكنه قبل أن يكون مؤذنا، من كان ينتبه إلى جمال صوته؟! من العجيب أن النبي أحاط بأصوات أصحابه حتى انتبه إلى هذا العبد الحبشي الذي كانت كل قصته أنه أسلم وعُذِّب - مع غيره ممن عذبوا ثم أعتقه أبو بكر ودخل في زمرة المسلمين ضمن غيره ممن دخلوا. ثم يأتي من رأى في منامه الأذان فيحكي ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الرد: انطلق به إلى بلال فإنه أندى منك صوتًا. أُقسم أني كنت في منتهى الحيرة والعجب لهذه الإحاطة غير العادية بقدرات الصحابة، وبهذا ارتفع رجل من كونه عبدا حبشيا ربما لا يرى في نفسه أي إضافة للأمة فيكون مؤذنا للأمة، تأتي إلى المسجد لأذانه، لأنه أندى الناس
صوتا!!
انظر في مجلس العلم، هل من داعية الآن عنده هذه الإحاطة بأصوات من يجلسون إليه ويستمعون له ؟ ولا أنا لا أعرف من بين عشرة من يكون منهم أجملهم صوتا!
وهو لعلمه بقدرات أصحابه يصرفهم إلى الأمور التي يحسنونها، فهذا يتعلم الفرائض (المواريث)، وهذا يتعلم العلم، وهذا يتعلم قراءة القرآن، وهذا يروي الحديث، وهذا يختص بالجهاد، وينظر إلى الغلام في سن الثانية أو الثالثة عشر فيقول: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، ويبعث
الداعية ليُعلّم الناس، ثم يبعث القاضي ليقضي بينهم ، وهكذا قسم النبي قدرات الأمة كلها.
وحين ازداد عدد المسلمين ودخل الناس في دين الله أفواجا، كان الناس الذين أسلموا حديثا يتزاحمون عند رسول الله ، ويبكرون في حضور الصلاة والمجالس حتى يرقبون حركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينظرون في أحواله: كيف يتكلم؟ كيف يسكن؟ كيف يتحرك؟ كيف يقول ؟ كيف يصلي؟ كيف يستسلم ؟ كيف يغضب؟.. وهكذا. وهذا التزاحم أمر طبيعي، فلو بعث النبي بيننا اليوم لذهبنا إليه في أي بلد ينزلها لنراه وننظر إليه ونتعلم منه.
لكن هنا حدثت أزمة، لقد صار السابقون إلى الإسلام يضطرون إلى الصلاة خلف الصفوف الأولى لتزاحم الناس عليه، وكذلك في مجالس العلم والوعظ، وهذا سيتسبب في نقصان العلم: فأولئك الذين رأوا السنين الأولى من حياته لم يعودوا يرون أحواله في السنين الأخيرة لتزاحم الناس، وهؤلاء الذين تزاحموا يرون النبي وسيرته وأحواله في السنين الأخيرة ولم يكونوا قد رأوا السنين الأولى، فمن هنا لن يكتمل العلم لأحد، وسينقص نقل السنة وفهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم والصورة العامة له في أحواله كلها. فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجل أن تنجح عملية تعليم الدين لأجيال المسلمين- يقول: ليليني منكم المهاجرون والأنصار أي ليكن الأقرب مني هم المهاجرون والأنصار، فتخلى لهم الصفوف الأولى لأنهم الذين شاهدوا الدين والعلم من أول الأمر فينقلونه كاملا. ولهذا فإن علماء الأصول يجعلون من أدلة التشريع: قول الصحابي، لأنه الذي شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أحواله، ولهذا أيضا تجد من أئمة الفقه من يأخذ بعمل أهل المدينة لأنهم الذين لازموا النبي مدة طويلة - ليست ساعات ولا أياما ولا شهورا فانتشار أمر ما بينهم يدل على أنه سنة أقر بها النبي.
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم نفسه الذي كانت تأخذه امرأة ضعيفة العقل فتنطلق معه وتفضي إليه بأمر من أمورها، ويسلم على الصبيان ويداعب الضعفاء ويلين مع الخدم والعبيد. فالذي لا يعرف عنه سوى هذه الصورة سيتصور أنه إذا أقبل عليه أحد ليصلي في الصف الأول فلا بد أنه سيرحب به ويثني على عمله ويحثه على لزوم الصف الأول. بينما واقع الحال غير هذا، لأن الكفاءة الإدارية تلزم بأن يبعد هؤلاء الناس ويأتي بالسابقين من المهاجرين والأنصار ليكونوا أقرب إليه. وهكذا لم تنقص كفاءته الإدارية من حب الناس له ولا من حبه وقربه للناس.
وكان إذا أراد أن يوجه أصحابه إلى سفر أو جهاد يجعل كل ثلاثة في ركب واحد، هؤلاء الثلاثة كانوا بمنزلة "الوحدة المتكاملة، فيجعل من بين الثلاثة اثنين من الميسورين ويلحق بهما رجلا فقيرا، فيجد الفقير في سفره عملا يقوم به وهو أن يؤدي عملا لصاحبيه، فيجد نفقته من أجره الذي يأخذه منهما. وكان يجعل من بين الثلاثة من هو ضعيف ومن هو قوي. ويختار الثلاثة بين المتحابين والمتآلفين، فيجمع هذا التقسيم بين إطعام الفقير وراحة الميسور وزيادة الود والتآلف فيرجعون أكثر حبا وتآلفا: شبع الجائع وخُدم الضعيف وتوثقت الصلة.
هذه الكفاءة الإدارية أحاطت بالأمة، فإنه يعرف من يحيط به واحدا واحدا، فلا يُخرجهم هكذا كيفما اتفق، بل يختار هذا مع هذا مع هذا، بناء على الفوارق الاجتماعية والمادية والجسمانية، فيستطيع أن يُخرج لبنات وخلايا تجعل المجتمع أقوى مما كان.
إن الضعف الذي نحياه الآن لم يكن ليشهده الصحابة، ذلك أن الذي قادهم لم يكن رجلا ساذجا أو درويشا - حاشا لله - يعتمد على نزول الوحي دون مؤهلات، لا.. بل كان في كل صغيرة وكبيرة يعرف كيف يُمَكِّنها، وكيف يُمَكِّن لها، وكيف يجعلها مُحْكَمة. إن هؤلاء الصحابة إنما هم ثمرة ثلاثة وعشرين عاما من الإحكام الإحكام الإداري والتربوي على أقل تقدير.
إن مشكلة الأمة الإسلامية اليوم تكمن في هاتين الكلمتين: الإدارة والتربية..
إنه ليس لدينا أزمة في الإخلاص، فإن الذي يدخل اليوم إلى المجتمع الإسلامي عادة ما يكون شديد الإخلاص، إنما الأزمة أنه يدخل بهذا الإخلاص ثم لا يجد عملا يتوفر فيه إحكام التربية وإحكام
الإدارة، فيخمد ويكسل. فتنهار "عملية الصناعة الإسلامية.
الكفاءة الثقافية
وكانت لدى النبي كفاءة أخرى أحب أن أسميها الكفاءة الثقافية، فلم يكن قليل المعلومات، بل على العكس، وإليك هذه الواقعة وهي من عيون الوقائع
وهي ضمن
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسائله إلى ملوك العجم بعد صلح الحديبية وتوقف الحرب بينه وبين قريش، فأرسل لعظيم القبط في مصر، ولكسرى ملك الفرس، وللقيصر هرقل ملك الروم، ولكبير الأحابيش. وقد استغرب المحققون من كلمة في رسالته لم يستعملها العرب أبدا، ولا يُدرى أصلُها ، رسالته لهرقل ملك الروم التي جاء فيها: "أسْلِم تَسْلَم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن لم تفعل فإنما عليك إثم الإريسيين، وإذا بحثت في معاجم اللغة العربية لا تجد هذه الكلمة، وأما علماء الحديث فقد شرحوها بأنها تعني العامة والشعب، أي الزّراع والصناع والفلاحين. وقال المحققون بأن هذه الكلمة "الإريسيين هي كلمة رومانية، ثم إن الروم كانوا يستخدمونها مصطلحًا يُطْلَق على أصحاب المهن الحقيرة الصغيرة الذين كانوا يُعدُّون في المجتمع أغلبية كبيرة.
والسؤال هنا: من أدرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو هذا الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب ويعيش في مكة، من أدراه بتشريح وتقسيم المجتمع الروماني، وهذه الكلمة التي تطلق مصطلحا على
هؤلاء؟
لقد أراد أن ينقل إلى ملك الروم في طيات هذه الرسالة - رسالة أخرى تقول: "يا ملك الروم، إنّ الذي يبعث إليك بهذه الرسالة ليس أعرابيًا جلفًا قد جلس في الصحراء داخل خيمة تظله راية وحوله غنمات وكلب يحرسها، ليس أعرابيا يرسل إليك رسالة عنجهية، بل إنه يرسل إليك وهو يعرف معنى الكلمة الرومية ودلالتها في التقسيم الاجتماعي لبلادك. وقد كان هؤلاء الملوك عادة إذا تلقوا هذا ينفعلون لمثل هذا السر ولغيره.
وقس على هذا علمه بلهجات العرب ومن ذلك أن رجلا أتاه يسأله أمن مبر مصيام في مسفر؟ فقد كان الرجل من قبيلة ينطقون الألف واللام ،ميما، فأجابه النبي قائلا: ليس من مبر مصيام في مسفر. وهو بهذا يجيبه مداعبا ومتألفا له.
ويأتيه شاب هندي يتحدث إليه فإذا برسول الله يحدِّثه في الإسلام ويكثر من ذكر الكلمات الهندية في هذا الكلام الذي يذكره له لأنه اشتغل بالتجارة مع هذه القبائل لما كانت تقدم إلى مكة ولما سافر هو خارج مكة رأى منهم فعلم وحفظ.
كان شخصية مثقفة، ليست تلك الثقافة العابرة، بل تستطيع أن تقول أنها: ثقافة كاملة. ولهذا لم يكن رسول الله شخصية سهلة، بل كان شخصية عميقة، يستطيع أن يفهم ما يحيط به، فإذا صدر عن أمر صدر عن نفس ممتلئة بمكونات القوة.
الكفاءة السياسية
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رئيس دولة يعرف جيدا ويزن جيدا الشخصية التي أمامه، فنحن الآن نرى تغير رئيس الوزراء الإسرائيلي -مثلا- فنجد أن سياسة هذا تختلف عن هذا رغم اتحادهما في اليهودية وفي الحرص على مصالح دولتهم. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرك هذه الفوارق ويزن الشخصيات؛ ففي صلح الحديبية جاءه أكثر من رسول من عند قريش، أولهم: سهيل بن عمرو، فما إن رآه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبسم وقال : إنما أرادت قريش الصلح إذ أرسلت هذا، وبناء على هذا
يكون التفاوض معه.
وبعد سنتين فحسب من هذا الموقف أرسلت قريش أبا سفيان في موقف آخر، فكان النبي على علم بأن أبا سفيان ليس كسهيل بن عمرو، وأنه يحتاج لطريقة مختلفة فعهد إلى واحد من الصحابة أن يقف به في مكان بعينه، ثم أمر كتائب الجيش أن تتجهز وتستعد وتمرّ من المكان الذي يراها منه أبو سفيان فيرى أبو سفيان الكتيبة فيسأل متعجبا من قوتهم وكثرتهم من هؤلاء؟ فيقال له : هؤلاء بنو فلان، ثم التي بعدها فيسأل: ومن هؤلاء؟ فيقال له: هؤلاء بنو فلان، وهكذا تمر به الكتائب فيزداد رهبة ،وهيبة، حتى تمر به آخر الكتائب وهي أكبرها وأقواها فيقول : من هؤلاء؟ فيقال له: هذه كتيبة المهاجرين والأنصار. فينهزم أبو سفيان معنويا ويقول للعباس بن عبد المطلب: لقد صار ملك ابن أخيك ملكا عظيما، فيقول: ليس بملك يا أبا سفيان، وإنما هي نبوة. وبعد هذا دخل أبو سفيان على النبي بعد أن صار في حال أخرى غير الحال التي جاء بها. ثم حين يدخل النبي مكة بعدئذ يقول: ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وهذا يجعلنا نسأل الآن الدعاة والشباب المسلمين: كم واحدا يعرف شخصية قائد الشرطة في حيه، أو المحافظ، أو ناظر المدرسة، أو عميد الكلية، أو عمدة القرية؟ كم واحدا يفهم الشخصيات
النافذة في بلده ومكانه إلى الدرجة التي يستطيع فيها أن يتعامل معه وينجح في ذلك؟!
هذا هو الدين، وليس الفهم السطحي البسيط الذي يفهمه المسكين الذي يظن نفسه داعية حين يذهب إلى أحدهم فيجبهه بالكلام ويقول: "أقيم عليه الحجة، لقد رأيت مرة من يذهب إلى عمدة القرية ويقول له: "قل لا إله إلا الله لأنك تركت الإسلام، فكان من الطبيعي أن يرد عليه الرجل بقوله: هل ستعلمني الإسلام ويطرده ولا يقبل منه.
يجب علينا أن نحسن التأسي برسول الله ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شخصا عاديا، بل كان يفقه ما يفعل وما يقول.
ولم تكن هذه الكفاءة السياسية مع عدوه فقط، بل مع صحابته كذلك، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدير مجتمع المدينة، وهو مجتمع معقد ومرهق:
فهو منقسم بين الأوس والخزرج، وهما قبيلتان كانت بينهما عداوة ضاربة في التاريخ وقتلى، وكان الرجل من الأوس يعرف الرجل من الخزرج ويتذكر أن أبا هذا قتل عمه، وخال هذا قتل أباه، وأخا هذا ضرب أمه.. وهكذا! أي أن الرجل كان حين يرى الآخر يراه متلبسا بدماء أهله التي سالت على يد
هذا ويد قبيلته.
ثم هم مع ذلك يعيش بينهم اليهود، وهؤلاء اليهود هم الذين كانوا يؤججون العداوة والبغضاء بينهم ، إذ إن مصلحة اليهود في بقاء العداوة مشتعلة بين الأوس والخزرج.
ثم يضاف إلى هذه التركيبة القبلية الصعبة المهاجرون والمهاجرون أيضا كانوا منقسمين إلى قبائل، وقد كان بين هذه القبائل تنافس شديد، يدل على هذا قول أبي جهل: كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا وسقوا فسقينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فأنى لنا هذا؟، فهذه هي القبائل التي جاء منها المهاجرون كان بينها حالة من التنافس الشديد، ثم ينزل الأمر الإلهي ليجعل من هؤلاء جسدا واحدا إِنَّ هَذِهِ أَمْتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء: ۹۲] ، فكيف تمكن النبي أن يجعل كل هذا بين يديه كرئيس للدولة؟!
وهذا يجعلنا نسأل الآن الدعاة والشباب المسلمين: كم واحدا يعرف شخصية قائد الشرطة في حيه، أو المحافظ، أو ناظر المدرسة، أو عميد الكلية، أو عمدة القرية؟ كم واحدا يفهم الشخصيات
النافذة في بلده ومكانه إلى الدرجة التي يستطيع فيها أن يتعامل معه وينجح في ذلك؟!
هذا هو الدين، وليس الفهم السطحي البسيط الذي يفهمه المسكين الذي يظن نفسه داعية حين يذهب إلى أحدهم فيجبهه بالكلام ويقول: "أقيم عليه الحجة"، لقد رأيت مرة من يذهب إلى عمدة القرية ويقول له: "قل لا إله إلا الله لأنك تركت الإسلام، فكان من الطبيعي أن يرد عليه الرجل بقوله: هل ستعلمني الإسلام ؟!! ويطرده ولا يقبل منه.
يجب علينا أن نحسن التأسي برسول الله، فلم يكن النبي شخصا عاديا، بل كان يفقه ما يفعل وما يقول.
ولم تكن هذه الكفاءة السياسية مع عدوه فقط، بل مع صحابته كذلك، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدير مجتمع المدينة، وهو مجتمع معقد ومرهق
فهو منقسم بين الأوس والخزرج وهما قبيلتان كانت بينهما عداوة ضاربة في التاريخ وقتلى، وكان الرجل من الأوس يعرف الرجل من الخزرج ويتذكر أن أبا هذا قتل عمه وخال هذا قتل أباء وأخا هذا ضرب أمه.. وهكذا! أي أن الرجل كان حين يرى الآخر يراه متلبسا بدماء أهله التي سالت على يد هذا ويد قبيلته.
ثم هم مع ذلك يعيش بينهم اليهود، وهؤلاء اليهود هم الذين كانوا يؤججون العداوة والبغضاء بينهم، إذ إن مصلحة اليهود في بقاء العداوة مشتعلة بين الأوس والخزرج.
ثم يضاف إلى هذه التركيبة القبلية الصعبة المهاجرون، والمهاجرون أيضا كانوا منقسمين إلى قبائل، وقد كان بين هذه القبائل تنافس شديد، يدل على هذا قول أبي جهل: كنا وبنو عبد مناف كفرسي رهان أطعموا فأطعمنا وسقوا فسقينا حتى إذا كنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فأنى لنا هذا؟ ، فهذه هي القبائل التي جاء منها المهاجرون كان بينها حالة من
التنافس الشديد. ثم ينزل الأمر الإلهي ليجعل من هؤلاء جسدا واحدا {إِنَّ هَذِهِ أُمْتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: (۹۲) فكيف تمكن النبي أن يجعل كل هذا بين يديه كرئيس للدولة ؟!
لقد بدا هذا أول مرة في غزوة بدر حين أفلت العير وصارت المسألة حربا، فقال لهم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم أبو بكر ويتكلم، فيقول النبي أشيروا علي أيها الناس، فيقوم عمر بن الخطاب ويتكلمي فيقول مرة أخرى أشيروا على أيها الناس )
وفيما بعد، أخرج النبي من المدينة بني قينقاع وهم فرع من اليهود وبني قريظة، ولكنّ كلا منهما خرج على نحو لا يشبه الآخر، فأما بنو قينقاع فخرجوا ولهم الحق في أ أن يخرج الواحد منهم بأهله وما يستطيع أن يحمله من ماله ومتاعه، ومالم يستطع حمله فهو للمسلمين. لأن العقوبة كانت الجلاء عن المدينة فحسب. وقد كان بنو قينقاع هؤلاء في الجاهلية حلفاء للخزرج.
وأما بنو قريظة فقد نقضوا العهد في وقت غزوة الأحزاب، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فأسرهم جميعًا وأصبحوا تحت يديه، وهو الآن يوشك أن يحكم في هؤلاء الخائنين.
لكن هؤلاء كانوا في الجاهلية حلفاء للأوس، وهنا قد يسري في أوساط الأوس قول يقول: ترى ماذا سيفعل في حلفائنا؟ هل ستكون عقوبتهم كعقوبة حلفاء الخزرج؟ أم لأن الخزرج أكثر عددا فسيكون لحلفائهم ما لا يكون لحلفائنا؟ وقد تسري رغبة تقول: فليكن لهم ذات العقوبة التي كانت لحلفاء الخزرج، فلا يكون لأحد علو على أحد.
انظر إلى رسول الله ، الرفيق السمح السهل، لم يواجه هذه الرغبة بالغلظة ولا بالعنف ولا بالقول: : أنا صاحب الحكم وهذا وحي من عند الله فلا شأن لأحد به، بل انظر كيف وازن النبي بين الأمرين؛ الأول: أنه لا يلين في الحق، وهؤلاء وجبت عليهم عقوبة الخيانة، فما كان له أن يعفو عنهم لأجل خاطر لأحد، والثاني: أنه يعرف أصحابه جيدا، ويعرف ما قد يدور في صدورهم، وحرج الموقف الذي هو من الرواسب القديمة للتنافس بين الأوس والخزرج. فماذا فعل؟
(٢) هنا انقطاع في التسجيل، ولكن يُتوقع أن الشيخ مضى ليذكر أن النبي لم يكتف برأي المهاجرين وإنما اهتم برأي الأنصار ليكونوا هم من أصحاب القرار وصناعه، وأنهم مع المهاجرين أمة واحدة لا يستأثر المهاجرون دونهم بشيء وليسوا حكاما عليهم بل إخوانا لهم وشركاء في ما ينزل بهم.
لقد ترك الحكم في المسألة، وجعل الحكم في هؤلاء لهم أنفسهم، فقال لهم: أما ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم: سعد بن معاذ؟ وسعد هو زعيم الأوس أنفسهم قالوا: بلى يا رسول الله، رضينا. وبهذا حُلَّت المسألة عندهم لأن الحكم فيهم صار لزعيمهم نفسه، وهو أكثر من يمكن أن تلحقه الإهانة" من أن يُعاقَب حلفاؤه بأكثر مما عوقب به حلفاء الخزرج. فلما جاء سعد بن معاذ صار بعض الناس يهمس إليه أحسن في مواليك يا أبا عبد الله.. أحسن في مواليك يا أبا عبد الله، فقال سعد - وكان جَهْوَري الصوت "لقد آن لسعد بن معاذ ألا تأخذه في الله لومة لائم، ثم قال: يا رسول الله، دعوتني لأحكم في هؤلاء؟ قال: نعم. قال: قال: أحكم فيهم أن يقتل رجالهم، وأن تُسبى نساؤهم وذراريهم، وأن تكون أموالهم غنيمة للمسلمين لقاء أو جزاء ما خانوا المسلمين في حرب بين الله ورسوله وعدوهم"، فسعد النبي - هذا الكفء العظيم- وقال له "أما لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات. وبهذا انتهت المشكلة دون أن يستشعر الأوس حرجا أو غضبا، بل خرجوا وهم يفتخرون بأن حكم سيدهم وافق حكم الله من فوق سبع سماوات
إن الأمور لا تجري بالدروشة والتواكل وأخذ الأمور على عواهنها، لا بل كان النبي شخصية فقيهة فاهمة مدركة للأوضاع والظروف.
الكفاءة الاجتماعية
كيف كان النبي يرفع الحرج عن أصحابه أو يؤلف بينهم؟
إن السيرة حافلة بالمشكلات التي استطاع النبي أن يحتويها، مثلما قال الأنصار مرة بعد غزوة حنين: "وجد رسول الله أهله، لكن لا بأس بذكر واقعة فردية لكي لا نخلط بين الكفاءة السياسية والكفاءة الاجتماعية.
ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفع الحرج عنه ؟
بينما كان الرسول جالسا بين أصحابه، إذ انتقض وضوء واحد منهم، وكان هؤلاء الجالسون جميعا قد أكلوا لحم جزور (جَمَل)، وهنا وقع الرجل في حرج، فلقد أوشكت الصلاة، ولئن قام يتوضأ فسيُعرف أنه هو الذي خرج منه ريح)، وهو إذا لم يقم فلن يستطيع الصلاة، ولئن صلى فلقد خان الله ورسوله لصلاته بغير وضوء.
لقد أقام كل الجالسين ليتوضأوا، وقال: "من أكل لحم جزور فليتوضأ، فقام الناس جميعا
للوضوء فرفع الحرج عن الرجل.
وكانت له أمور عجيبة في مواساة الناس حتى عند الموت وحال بكاء الأهل على صاحبهم، وأنقذ قريشا من الاقتتال في مسألة الحجر الأسود قبل بعثته حين كان عمره ٣٥ سنة، ورفض أن يسابق قافلة من القوافل فيسبق بالتجارة ثم كان أربح منها بكثير.
الكفاءة العسكرية
كذلك تتجلى كفاءته العسكرية في أمور كثيرة، منها أنه كان يعرف عدد الجيش من عدد الذبائح التي يذبحها يوميا، ويعرف نوع الإبل وقبيلتها من روث هذه الإبل، ويعرف إن كانت هذه الإبل جيشا أم قافلة، على تفصيل كثير.
لم يكن شخصية خامدة ولا خاملة، بل شخصية مدركة...
كيف استطاع في غزوة الأحزاب أن يستفيد بواقعة إسلام مسلم جديد هو نعيم بن مسعود، الذي لما حضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم "إنما أنت فينا رجل" أي: لن تزيدنا ولن تؤثر، لكنك لست معروفا بالإسلام فخذل عنا ما استطعت، فيذهب إلى اليهود وإلى الأحزاب حزبا حزبا حتى استطاع نعيم بن مسعود وحده -بهذه الخطة التي وجهه إليها النبي أن يصنع خدعة -والحرب خدعة - شتت بها الأحزاب في أرض الجزيرة العربية في الصحراء، فلو أنك نظرت إلى هذه الأحزاب المجتمعة في حصار المدينة بعد عشرة أيام من إرسال النبي لنعيم بن مسعود لوجدتهم متناثرين في جزيرة العرب، فهذا هنا وهذا هناك وهؤلاء بينهم وبين بعضهم نزاع واليهود قد صاروا في قبضته وانتهت المحنة
كيف استطاع أن يفعل هذا؟ ذلك أنه يعرف اليهود جيدا، ويعرف القبائل جيدا، ويعرف شخصيات زعمائها، ويعرف كيف يدير الحرب.
وهو مع ذلك في منتهى الصدق.. ويبدو هذا كأوضح ما يكون في قصة عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فلقد كان ممن أسلم ثم ارتد فلما فتح النبي مكة أعلن أنه ضمن من يُقتلوا إذا عثر عليهم
حتى لو تعلق بأستار الكعبة، لكن الرجل كان أخا لعثمان بن عفان في الرضاعة فلما جلس النبي لأخذ البيعة ممن أسلم من أهل مكة، جاء عثمان به ليسلم رجاء أن يعفو عنه رسول الله، فلما أقل عليه صار النبي صلى الله عليه وسلم يشيح بوجهه عنه ولا يكلمه، فظل عبد الله بن سعد يأتيه من اليمين والشمال والنبي يشيع عنه حتى قبل النبي منه وبايعه. ثم أقبل النبي كلا على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ؟“، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟، قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين كان صادقا، ولا يقبل الأسلوب المائع أو الملتوي، لكنه في ذات الوقت ليس الساذج الذي يُخدع بل هو كما قيل : لست بالخب ولا الخب يخدعني.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفاءته قد استطاع تشتيت شمل هذه الأحزاب المجرمة وهذه العصابات الآثمة التي اجتمعت عليه من الشرق والغرب لقتل الإسلام والقضاء عليه فيستطيع بكفاءة الرئيس والقائد والزعيم أن يجعلهم في أيام متناثرين في جزيرة العرب، قد عادوا فئات مشرذمة.. إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاع هذا بكفاءته فليس معنى هذا أنه مخادع، بل على العكس، إذ عندما كان الأمر يتعلق بشخص واحد لم يرض أن تكون له خائنة أعين.
إنها شخصية مكتملة الاستقامة، ليست ساذجة ولا خاملة ليس ،ضعيفا، وإنما تمتلئ عمقا وفقها وثقافة وإداركا وعلما وكفاءة وهذه هي الشخصية مكتملة الكفاءة وفيها الخصائص والملكات المطلوبة صبور قوي محبوب، محبب إلى الناس فيه الخلق القويم، وفيه العبادة الصافية الصحيحة، عابد على خلق عظيم على كفاءة عالية سامية.
هذه هي شخصية رسول الله التي جمعت المتقابلات تجد لديه الشجاعة والحياء، عنده الهيبة التي يرتعش لها من يلقاه وعنده التواضع الجم، وهكذا.
حكمة الداعية
لعله يبدو الآن من هذا الكلام السابق أن النبي شخصية وافرة الدقة عظيمة التنظيم إلى الحد الذي لا يكون فيه للاعتبارات الأخرى أي مجال.. وهذه أيضا صورة منقوصة وغير صحيحة، ذلك أن النبي كان صاحب حكمة تُغري بالتوقف عندها.
لقد تحدثنا عن أخلاقه العليا لله ثم عن كفاءته الكاملة كي لا يتوهم أحد أن سمو الأخلاق يذهب بالكفاءة، ثم تحدثنا عن كفاءته إلى حدٍّ ربما يستجلب الخوف والخشية من هذه الشخصية صاحب القوى العقلية، والآن نتحدث عن حكمته لنرى كيف أن هذه الحكمة كانت تُرِطّب الأمور وتخرجها
أحسن مخرج.
فمن العجيب أنه، وهو الذي منع النساء من اتباع الجنائز صارخات، وجد يوما امرأة تسير خلف جنازة زوجها صارخة نادبة، فلم ينهها، وإنما حاول أن يصبرها ويواسيها، فصاحت في وجهه ولم تكن تعرفه - وقالت: إليك عني يا هذا، فإنك لم تُصَب بمصيبتي، ثم قيل لها هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت المرأة جزعة على عقيدتها أن تكون قد أساءت إلى الرسول وأسرعت وراءه تعتذر إليه، وأنها لم تكن تعرفه. فترك إساءتها إليه، وترك لهفتها على أنها أساءت إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد -في هذه اللحظة التي هي مفتحة الحواس فيها ومنتبهة إلى قوله وترتقبه - أن يعود بها إلى القضية الأولى، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي أن هذا هو وقت الصبر، وأدى إليها هذا المعنى في لحظة انتباهتها وترقبها.
وذات مرة رأى امرأة أخرى تصرخ وتندب خلف جنازة، فأقبل عليها عمر بن الخطاب يُعنفها، فقال له النبي "دعها يا عمر، فإن المصاب جلل والخطب قريب. فبرغم أنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن سير النساء خلف الجنازة، إلا أنه نهى عن أسلوب الشدة، وإنما يحتاج الأمر إلى حكمة من الداعية.
لقد كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حاضرة دائما في تحركه، ولنضرب مثالا على هذا بقصة الكعبة..
إن الكعبة بناء صغير غرفة مسقوفة، وفي إحدى جهاتها بناء صغير على هيئة نصف دائرة يسمى "حجر إسماعيل" وهو المكان الذي حُضن فيه إسماعيل عليه السلام- وهذا الجزء هو جزء من الكعبة، وكانت الكعبة قديما تشمله.. فكيف ولماذا صغرت الكعبة عن حجمها الأصلي؟
كان ذلك عندما أعاد العرب بناء الكعبة، وكانوا يعظمونها، فاشترطوا على أنفسهم ألا يدخلوا في بنائها مالا حراما، فلا يدخل فيه مالُ ربا أو من تجارة الخمر أو من تجارة الدعارة أو مال مغصوب أو مسروق. وتأمل هنا كيف يشهد الناس على أنفسهم ويعترفون بانتشار الحرام في أموالهم: من السرقة والغصب والربا والخمر والزنا، ويتواصون ألا يدخل هذا الحرام في بناء الكعبة!! وتأمل أيضا في هذا المجتمع المنهزم من داخله، هذا المجتمع الذي سيواجه بعد أعوام دعوة محمد وهم يعرفون
أنهم على الباطل. تأمل في صورة مجتمع يوجّه القول لصاحب بيوت الزنا: لا تُدخل في الكعبة شيئا من مال هذه البيوت، أو يقول لآخر: لا تدخل شيئا من المال الذي سرقته في الكعبة، أو يقول لآخر: لا تدخل مال الخمر في الكعبة!!
ثم تأمل كيف أن كل هؤلاء العرب لم يستطيعوا بأموالهم الحلال أن يبنوا بناء بسيطا مثل الكعبة، إن كل أموالهم الحلال لم تكف لإكمال بنائها بمجرد الحجر من غير زينة ولا زخرفة ولا أثاث، فاضطروا إلى أن يأخذوا من مساحة الكعبة، ثم جعلوا حدا وحيزا على هذا المكان الذي هو حجر
إسماعيل“.
واستقر بناء الكعبة على هذا الحال، وكان متوقعا أن يكون أول ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد
بناء الكعبة على وضعها الأصيل، على قواعد إبراهيم، فهل فعل؟!
لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ١٣ عاما في شدة واضطهاد، ثم ظل ثماني سنوات ممنوعا من زيارة الكعبة، ولم يرها إلا ثلاثة أيام أثناء عمرة القضاء (في العام السابع للهجرة، تطبيقا لصلح الحديبية، وكانت قريش قد أخلت مكة وخرج رجالها على رؤوس الجبال ينتظرون خروجه، وفي هذه العمرة طاف النبي بالكعبة وما يزال حولها ثلاثمائة وستون صنما، ثم فتح مكة في العام الثامن للهجرة (أي بعد واحد وعشرين سنة من البعثة فحطم الأصنام ولكنه لم يُعد بناء الكعبة، ولم يبق إلا عامان على وفاته، فأرسل أبا بكر أميرًا على الحج في العام الأول ليمنع أن يطوف بالبيت مشرك أو عريان، وحج مرة وحيدة في حياته، قبل وفاته بثلاثة أشهر ، فلما طاف بالكعبة كانت الكعبة
على هيئتها ذاتها، وكان يستطيع معه عشرة آلاف أن يهدمها ويبنيها على قواعد إبراهيم.
ولو تَصَوَّر أحدنا نفسه داخلا بعد كل هذه السنين، وقد استطعنا أن نقهر أعداءنا وأن نتمكن من الأمر، ونحن نهتف وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء: ۸۱] لما تردد في أن يفعل هذا.
لكنه إنما يعلم أنه دخل على قوم - وإن كانوا قد أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجا - إلا أنهم ما يزالون بعد حديثو عهد بالإسلام، حديثو عهد بجاهلية، فقال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهَدَمتُ الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم، فانظر كيف هدم الأصنام ومنع أن يطوف بالكعبة عريان وكيف كان يستطيع أن يهدم الكعبة ويعيد بنائها، لكنه فعل الأولى والثانية ولم يفعل الثالثة لأن ثمة شيئا في الدين وفي الدعوة الإسلامية - وفي خطها وسيرها- اسمه الحكمة.
الحكمة التي راعى بها قلوب الناس، حتى بعد أن تمكّن منهم وانتصر عليهم، لأن القلوب قد تتغير وتهتز لهذا الأمر.
الحكمة التي جمعت له الناس تحت جناحه، وهو الذي بدأ دعوته وهو يُضرب بالحجارة وتُرمى عليه القاذورات والأوساخ، فانتهى والناس جميعا لا تعامله بل لا تكلمه ولا تخاطبه خطاب الناس بعضهم لبعض.
ولو استطردنا فتحدثنا عن مواقفه مع حاطب بن أبي بلتعة، ومع أبي سفيان، ومع عكرمة بن أبي جهل، بل ومع عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق إذ يقول فيه: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ولكن تحسن صحبته ما صاحبنا"، وغيرها.. لأدركنا كيف كان هذا النبي يزن الأمور بحكمة وعقل لا تغلبه بسبب الكفاءة.
إنه رجل كفء في الجانب العسكري، نجح وانتصر، لكن ثمة نضج وعقل وحكمة في تصرف يستطيع المسلم به أن يصل بالأمور إلى منتهاها. ونحن إذ وقفنا مع كفاءته وخلقه فكان لا بد أن نقف أيضا مع موفور عقله وحكمته، فندرك كيف كان ذا حكمة وكيف كان ذا
عقل بالغ
الخُلُق مادة الإسلام وقوام الدعوة
ولا ينبغي أن يشغلنا هذا كله عن الخلق الذي تميز به محمد ، والذي قال الله فيه وهو يخاطبه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، فإن مادة الإسلام تذوب جميعا في الخلق، فجوهر الإسلام - بعد العقيدة هو الخلق؛ تذوب فيه العقيدة والشريعة، هو القوام الذي يحتوي كل هذا.
وانظر وتأمل في قول الله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩]، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: مهما كان الدين دين الله، وكان الذي يتحدث به هو سيد خلق الله رسول الله ، والكتاب كتاب الله، والكلام كلام الله، والعباد عباد الله، والأرض أرض الله.. مهما اجتمع ذلك كله فإنك لو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْغَضُوا مِنْ حَوْلِكَ.
فلا سلامة العقيدة، ولا كونها دين الله، ولا كونها مرسلة مع رسول الله .. إلخ، بعاصمة من تفرق الناس عن الدين إذا لم يكن الخلق حسنا.
ولذلك، فأحيانا ما يقابل المرء إنسانا يظهر منه حسن الحال، ويراه الناس هكذا ويثنون عليه، لكن يبقى في الصدر حرج منه، لا تستطيع أن تطمئن إليه أو أن تضعه في المنزلة العالية التي يبدو أنه مستحق لها، مع أنك إذا نظرت إلى علاقاته مع أصحابه وإخوانه تجدها ممتازة. ثم أدركت لماذا.
إن المحك الحقيقي لمعرفة الإنسان هو أن تراقبه وتختبر علاقاته مع من يخالفهم ويشاجرهم وإن كانوا على الباطل سينكشف لك عادة أنه ضعيف الخلق، فتراه بذيئا، أو عنيفا، تراه إذا خاصم فجر! فتدرك ساعتها أن ما يظهر عليه من حُسن الخلق ليس لأنه حَسَن الخلق، وإنما لأنك تراه في الموضع الذي على هواه في البيئة التي تريحه، أو أنه في بيئته تلك يتصنع حسن الخلق لما يجد نفسه فيه من حرج أو خجل أو اضطرار. لكن اختبار حسن الخلق يظهر حين يختبر في الخلاف. ولهذا قال النبي في آيات المنافق: "إذا خاصم فجر"، وكأنه يقول: إذا واد (أي واحد، كانت فيه مودة) فهو لطيف وظريف.
يوم
لقد كانت تُنظف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عجوز سوداء، سفعاء الخدين، نحيفة، وذات سأل النبي : أين فلانة ؟ فقالوا: ماتت بالأمس ودفناها.
إنها امرأة فقيرة، لا مال ولا جمال لا تُذْكَر، ولا ينتبه لها أحد ، ثم هي يوم تغيب تلفت نظر النبي، لأنه لا يهتم لكبار القوم فحسب.
وهنا ينبغي أن ننتبه، فأنت إذا كنت مثلا - مدير شركة أو وزيرا، أو موظفا كبيرا .. إلخ، هؤلاء الذين يُقدّر وقتهم بالقيمة ،والمال، ثم جاءك من يقول لك: أريدك في موضوع مهم للغاية، حالة عزاء ضرورية فتسأله من ؟ فيقول: من يكنس الشارع، أو قال: ذلك الشحاذ المتسول على أول الطريق، فالمتوقع أن ترد مستنكرا يا رجل، أأترك عملي لهذا؟!
وقد كانت المرأة هكذا كانت لا أحد لها، وقد ماتت ودفنت، أي أنه قد انتهى الأمر.
وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب ويقول: فهلا آذنتموني؟ دلوني على قبرها ومشى النبي إلى قبرها في أطراف المدينة، فصلى على قبرها ودعا لها، وظل واقفا عنده وقتا لا يقفه عند قبر آخر حتى ينصرف.
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم المكلف بمجاهدة الكفار والمنافقين، والحكم بما أنزل الله، والبلاغ برسالة الله.. إذا به يقف على قبر امرأة سوداء، ضعيفة، سفعاء الخدين، تكنس، لا يُؤبه لها ولا يلتفت إليها، وماتت ودُفِنَتْ وانتهت المناسبة!! فهكذا كان الخلق عنده.
من المؤسف أن أحدَنا إذا كان الميت بسيط الحال لم يذهب، أو لم يذهب بنفسه وأرسل ولده بدلا منه، أو اكتفى ببرقية، فلماذا يا أخي؟ لماذا وهذا رسول الله وهو أرفع الناس قد علمنا وهدانا وأعطانا هذا النموذج وهذه القدوة.
إنها الرحمة التي فطر عليها وأودعت قلبه، وهي أمر لا شرط عليه، فليس لأحد أن يقول: سأرحم الناس حين أصير غنيا، بل قال الله تعالى في الحديث القدسي: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي، ولم يكن مصرًا على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم الأرملة والمسكين وابن السبيل، ورحم المصاب.
ومن المنكر في أيامنا هذه ألا يقف المرء لمصاب صدمته سيارة -مثلا- فيسعفه أو يحمله إلى المستشفى لخشيته من أن يتورط في أمره، هذا غياب للرحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم، إنما يرحم الله من عباده الرحماء بل احمله إلى المستشفى واعتن لحاله رحمة منك، ثم لتنظر في شأن المشكلة - إن كان ثمة مشكلة - أما أن تبيع الآخرة التي ثمنها هذه الرحمة لتشتري سلامة ليلة فهذا ما لا يُقبل ثم وعلى أسوأ الفروض - أن قد أصابك في هذا بلاء، فما أيسره إذا كانت الجنة في المقابل.
انتبهوا، واجعلوا رقابة الله علينا أعظم من رقابة أي شيء، فإن أراد الله منك أن ترحم المصاب فلترحم المصاب، وهكذا كانت رحمة النبي .
ومما يلفت النظر في أخلاق النبي أنه كان يثير ويبتكر أمورا ليسعد بها من حوله، أو ليكفيهم نوع مشقة أو ليرفع عنهم حرجا. فقد استأذنت السيدة عائشة يوما لحضور زواج فتاة من الأنصار، فلما عادت وهي سعيدة ولم يشعر أحد بنقص - ابتدأها رسول الله بقوله: ماذا كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار قوم يعجبهم اللهو. فقالت: يا رسول الله ، ما فعلنا شيئا، وماذا كنا نفعل؟ فقال لها: هلّا بعثتم معها من يغني لها؟ فقالت له: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا كنا نقول ؟ فإذا به يقول لها: كنتم تقولون
أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم ولولا الحنطة السمراء .. ما سَمِنَت عذاريكم ولولا الذهب الأصفر .. ما حلّت بواديكم أتيناكم أتيناكم .. فحيانــــــا وحياكم
إن إسعاد العروسين بزواجهما مطلب شرعي، ولا علاقة لهذا بما يُرتكب من مخالفات كالاختلاط والعبارات غير المنضبطة شرعا أو وجود الموسيقى التي يرى جمهور العلماء فيها
رأيهم.. إلخ.
ولا يعني هذا أن يتمسك الإخوة بهذه الأغنية وحدها، إنما هي اقتراح منه صلى الله عليه وسلم مثالا، وإنما السنة في الأفراح أن تؤلفوا الأناشيد والأغاني ذات المعاني البسيطة المُسْعِدة الحلوة، وباللغة العامية كي يفرح الناس ويتجاوبون معها.
لكن العجب أن النبي هو الذي يُثير الأمر ابتداءً بغير داع إليه، فلم يكن هذا نتيجة لنزاع أو اختلاف رأي حول الغناء أو الفرح فتدخل النبي لحل الإشكال، وإنما ابتدأ هو بما يُسعد الناس ويسرهم ويفرحهم.
ولما تزوج صحابي قال له النبي صلى الله عليه وسلم "هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك ؟ فهو هنا يثير الأمر ابتداء، أمر الخفة والملاعبة والبساطة في الحياة الزوجية، يُثيرها ابتداءً والناس غافلة عنها. يثيرها بهذه البساطة، فمن الحسن أن تُشيع السعادة في الناس، ولما تكلم عن الابتسام كان يقول : "تبسّمك في وجه أخيك صدقة، فهذا الفقير الذي لا يجد ما يتصدق به ماذا يفعل؟ فليتبسم، فتصبح وجوه المسلمين وجوه بشر.
ومن القصص العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم وبينما هو جالس بين أصحابه، ولعله وقتها كان يحدثهم في العقيدة أو الفقه أو العبادة، دخل عليه صحابي يلبس عمته، ولكن يبدو أنه كان متعجلا فلم يحكم ربطها، فناداه النبي فأجلسه أمامه ثم حلّ العمامة وربطها بإحكام وأسدل له ثم قال: "هكذا فاعتم. ويمكن أن نقيس هذا على ربطة الكرافتة في عصرنا الآن، لكن المقصود هو: كيف يتحبب إلى أصحابه ويشرح لهم كيف يكون هندامهم. وأما الرجل ففرح بهذا أيما فرح ونوى ألا يحلها مرة أخرى بل تبقى هكذا تبركا برسول الله.
أنا لم أفعل هذا من قبل، ولا أدري لماذا؟ ربما فعلتها منذ زمن لابن أخي أو ابن أختي، لقريب لي لكن ليس لواحد من عموم المجتمع كي أدخل عليه سعادة ومحبة وبشر وسرور وبهجة، وهؤلاء هم من يسألون: لم يغيب الإخاء عن دنيا المسلمين اليوم؟
ذلك أنهم منشغلون بالأمور الجافة، الفقه يقول كذا، والنقاشات بعد الصلوات فقهية، وتختفي المحبة والمودة والحديث الخلو الذي تأنس له القلوب؟
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يتحبب الناس تحببهم بهذه الصورة، يُدخل أمورا تُسعد ابتداءً دون أن تكون مثارة:
ذات مرة كان جالسا بين أصحابه، فكان إذا أتى واحد رحب به وأجلسه على يمينه، ثم إذا أتى ثان أجلسه أمامه، وثالث فيلقي إليه بوسادة، وهكذا يضع القادمين فيما يليه ليسعده، حتى إذا ضاق المكان وامتلأ البساط، جاء رجل.. ترى ماذا يفعل معه النبي ؟!
إنما أريد أن نتذوق القصة لا أن نعرفها لمجرد الثقافة. هذا الذي يشعر أنه زائد قد أتى بعد انتهاء المجلس، كيف يشعر؟ وكيف سيتعامل النبي مع شعوره هذا، وهو الرسول، ورئيس الدولة، والقائد فكل من حوله أقل منه، وفضله عليهم لا يُنكر، فهو خير خلق الله على الإطلاق.
لقد خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءته وألقاها إليه وقال له: اجلس على هذه!!
أأجلس على عباءة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! أبسطها على الأرض؟!
فطفرت دمعتان من عيني الرجل، وجمع العباءة وقبلها، وذهب بها إلى سيد خلق الله يقول له: أكرمك الله كما أكرمتني يا رسول الله.
ترى كيف بلغ هذا من قلب الرجل؟!
إنه يريد لمن حوله أن يحيا كريما فرحا سعيدا، حتى لو لم تكن السعادة موجودة بينه وبينهم فإنه يوجدها ابتداء فكانت هذه شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
البشارات بنبوة محمد
كان الناس من أهل الكتاب وأصحاب العلم ينتظرون رسولا سيبعث اسمه أحمد أو محمد، يعرفون أنه رسول الله، قبل أن يعرف النبي نفسه أنه سيكون رسول الله. ونحن نقول هذا لكي نوقن أن دين الله واحد، وأن هؤلاء الذين يكفرون بالإسلام، سواء يهود أو نصارى، إنما ينكرون قواعد موجودةً في دينهم نفسه، وأنهم لما كفروا بمحمد إنما كفروا بدينهم وهم لما حرفوا كتبهم ولما قالوا بأن القرآن ليس بكتاب لله، وأن محمدا ليس برسول لله، لما فعلوا ذلك إنما كفروا بدينهم.
ونحن عندما نتحدث نحن هنا عن السيرة لا نتحدث عن أمر يخصنا وحدنا، بل نتحدث عن أمر تحدثت عنه الأمم السابقة بمثل ما نتحدث عنه الآن.
إن الأمر كما قال الله تعالى غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: ٢، ٣]، فقبل أن تقع الموقعة عرف المسلمون ما الذي سيحدث، فلما وقعت قالوا: نعم، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله أو كقول الله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ في الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أَولَاهُمَا .... } [الإسراء: ٤، ٥]
{فَإِذَا جَاءَ ... وَعْدُ الْآخِرَةِ ... [الإسراء: ٧]، فإذا حدثت هذه الأمور نعلم أننا كنا نعرف بها من قبل أن تقع.
وكذلك السيرة، أخبر الله تعالى بشأنها أصحاب الكتب السابقة، فلما وقعت كانوا يعرفونها، ولذلك يقول القرآن الكريم عن معرفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: ١٤٦] ولهذا فإن سيرة النبي المصطفى لم تبدأ منذ ولادته، إنما هي بابتدائها وانتهائها ومراحلها كانت معروفة لمن كان يقرأ الكتب السابقة: البعثة ومكانها والهجرة ومكانها ووفاته ودفنه. أهل الكتاب
كان أهل الكتاب يستفتحون على الذين كفروا، فمن ذلك أن واحدا من أهل يثرب قتل رجلا تابعا لملك ،اليمن، فحرك هذا الملك جيشه وأقبل لقتال اليثربيين، فبينما هو كذلك إذ خرج عليه عالمان من أحبار اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة وقالا له: أيها الملك، لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما ولم ذاك؟ فقالا: هي (هذه المدينة) مُهَاجَرُ نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره.
فأنت تفاجأ هنا أنهم كانوا يتحدثون بتحديد غريب عن رسول الله ؛ فيقولون أن رسول الله سيخرج في هذا الزمان، فنأخذ من هذا أنه رسول الله وأنه قد تحدد زمان خروجه، ثم يقولون بأن قومه سيضطهدونه وسيهاجر، فها هنا تصريح بالهجرة، ثم تكون هذه الهجرة من مكة "من هذا الحرم، ثم حددوا قبيلته بأنها "قريش"، وحددوا مكان الهجرة يثرب"، وعرفوا أنها ليست هجرة مؤقتة لعامين أو ثلاثة بل هي مستقر "تكون داره وسيظل فيها طوال حياته حتى يموت، فهي "قراره" أي قبره
فهذه العبارة على بساطتها جاءت بالسيرة من أولها إلى آخرها فقد ذكرت البعثة والاضطهاد والهجرة وأهل النبي ونسبه وموطنه ومهجره، ومدة إقامته في يثرب وأين سيموت ويدفن فتلك هي السيرة!
فكانت صورة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة في أذهانهم كانوا يدركون الأمر كله، ويعرفون أنهم ينتظرون هذا النبي، بل تبلغ درجة معرفتهم به أنهم يفرقونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة: ١٤٦).
وتبدو هذه المعرفة واضحة تماما في قصة بحيرا الراهب فإنها في غاية العجب..
كان النصارى ابتدعوا الرهبانية لتكون وسيلتهم إلى الله فكانوا يختارون مكانا منعزلا خاليا للعبادة
وربما اختاروه على الطريق كي يلتفت الناس لأمر عبادة الله فيجد من أراد سبيل الله أناسا يأخذونه
إلى هذا السبيل.
وفي صومعة على الطريق بين مكة وبصرى - من أرض الشام نزل راهب من رهبان النصارى، يقولون: انتهى إليه علم النصرانية، وكان أكبر الكهان في الزمان يتعاقبون عليه، ويزعمون أنه كان لهم كتاب مخطوط من كتب النبوات لا ينسخون منه غير نسخة واحدة تكون مع كبير الرهبان وكان بحيرا الراهب معتزلا في صومعته لا يأبه لمن يسافر أو يرجع إلى أن جاء ذات يوم فخرج من صومعته وسعى إليهم.. فلماذا يا ترى؟
السبب أن محمدا لما بلغ الثانية عشرة من عمره لم يكن طفلا لاهيا ولا شابا عابثا وإنما أراد أن يكون قويا، وجد نفسه يتيما لا أب له ولا أم ولا جد، وهو عند عمه الذي يكفله، وعمه هذا كثير العيال، فعزم على أن يعمل بنفسه، وألح على عمه أن يخرج معه في رحلة إلى الشام حتى استجاب له وخرج معه.
وهنا يجب أن نتذكر وننتبه جيدا أن النبي لم يصل إلى الشام أبدا ، ولم يغادر حدود جزيرة العرب
وما إن عبرت القافلة بالطريق الذي عليه صومعة بحيرا حتى غادر هذا صومعته ونزل إليهم، وهذا مصداق قول الله عز وجل (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة: ١٤٦]، إذ هو لما رآه من بعيد عَرَفَه. فأنت الآن إذا نظرت من الشرفة إلى غلام بعيد في الثانية عشرة من عمره لن تعرفه حق المعرفة إلا إذا كان ابنك أو في هذه المكانة من القرب منك.
فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام مصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم، وحُرُّكم وعبدكم فقال له رجل منهم يا بحيرا إن لك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع هذا فيما مضى! وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ فقال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم صغيركم وكبيركم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله من بين القوم- لحداثة سنه - في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بحيرا ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سنا، تخلف في رحالهم، قال: فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل مع القوم من قريش: واللاتِ والعُزَّى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه، ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرا فقال له: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، أما) بحيرا) نفسه فلا يؤمن بهما بل يراهما أصناما) فزعموا أن رسول الله قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت شيئاً قط بعضهما، فقال له بحيراك فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه قال: سلني عما بدا لك، فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه، وهيئته، وأموره، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ منه أقبل على أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال له بحيرا: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً، قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لِيَبْغُنَّه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة.
ويشاء ربك أنه بمجرد إرجاع أبي طالب لابن أخيه إلى مكة يأتي وفد إلى بحيرا من ثلاثة علماء من بني إسرائيل كانوا قد رأوا من رسول الله مثل ما رآه بحيرا في ذلك السفر، فأرادوه ليقتلوه لأنه ليس من بني إسرائيل, وهذا ليس غريبا عليهم فقد امتهن بنو إسرائيل قتل الأنبياء، فكم قتلوا من نبي وكم قتلوا من رسول
فخشي بحيرا على النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فظل يُذْكرهم بالله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه. ولكنهم لم يؤمنوا، إنما نجح بحيرا فقط في إرجاعهم وصرفهم عن نية
قتله.
وأريد أن تنتبهوا معي إلى "بصرى" هذه فستأتي معنا بعد قليل.
هذه الإشارات التي تحدث في الكون لم تكن بإشارات يسيرة بالنسبة لأهل الكتاب، بل كانت واضحة شديدة الوضوح، إلى درجة أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
فمن ذلك أنه في زمن صلح الحديبية خرج تاجر إلى الشام والشام كانت المركز الأساسي لأهل الكتاب، فمكث سنة، ثم قدم - وكان يكثر السب للنبي- فأول شيء سأل عن النبي فقيل له: هو - والله - أعز ما كان وأعلاه أمرا ، فَسَكَتَ ولم يسبه كما كان يسبه، ثم قال لأقاربه: إني كنت بقرية فرأيت بها راهبا يقال له بكا لم ينزل إلى الأرض أربعين سنة، وذلك ليتفرغ للطاعة الخالصة من مخالطة الناس، ولأنه عرف أن الزمان زمان جاهلية وفتن يقول الرجل فنزل يوما فاجتمعوا ينظرون إليه، فجئت فقلت: إن لي حاجة، فخلا بي. فقلت: إني من قريش وإن رجلا منا خرج يزعم أن الله أرسله. قال: ما اسمه؟ قلت: محمد قال: منذ كم خرج؟ قلت: عشرين سنة. قال: ألا أصفه لك؟ قلت: بلى. فوصفه فما أخطأ من صفته شيئا، ثم قال لي: هو - والله - نبي هذه الأمة، والله ليظهرن. ثم دخل صومعته وقال لي اقرأ عليه السلام.
وهنا تأمل في هذا الذي جاء يسأل عن نبي بعث من عشرين سنة، فالمتوقع أن يقول: صفه
لي، لا أن يقول: ألا أصفه أنا لك؟
العجيب في هذا الأمر أن لا أكون رأيتك ولا جلست إليك ثم أستطيع أن أصف صفاتك وأحوالك بدقة، السمت والكلام ومسيرته في الحياة. فإذا استطعتُ أن أصف ذلك بدقة فلا بد أن يكون هذا الذي عندي هو علم موثق راسخ.
إنما نقول هذا لنمهد للحديث عن وحدة الدين الذي أنزله الله، ووحدة السيرة التي نتحدث فيها، لا يختلف سابقها عن لاحقها أبدا وإنما هي دين الله -عز وجل- الواحد الذي ينظم هؤلاء جميعا.
وهذا ورقةُ بنُ نَوْفَل، وليس صحيحا ما يظنه البعض من أنه سمع عن رسول الله لما بعث وذهبت إليه خديجة . لا .. لم يكن الأمر كذلك.
إن ورقة بن نوفل رجل قرأ دين الله، وتعلم فيه أن الأوثان ،باطل، فانتقل من الدين الذي عليه الكافرون الوثنيون إلى دين أهل الكتاب يعبد الله الواحد الذي لا شريك له، وقرأ في كتب أهل الكتاب، وكان يعرف اللغة العبرانية التي كتبت بها كتابات اليهود والنصارى في الدين، فقرأ وعرف، وذات يوم زارته خديجة -وهي ابنة عمه - فذكرت له أنها عينت مديرا جديدا" لتجارتها التي تذهب إلى الشام، هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وأنها أرسلت معه غلامها ميسرة ليستوثق ويطمئن لأمر التجارة معه، ولكن ميسرة أتاها بأخبار غريبة كالغمامة التي تظلله أو الملكين أو ما سوى ذلك، وما يزال يصل إلى ورقة خبر بعد خبر حتى امتلأت نفسه به وقال لها: "لئن كان هذا حقا يا خديجة، إن محمدا لنبي هذه الأمة، وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي يُنتظر، هذا زمانه، وروي
عنه شعر يعبر عن تشوقه هذا الذي كان يكتمه في نفسه ولا يُصرّح به، يقول:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكلين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا بما خبرتنا من قول قس . من الرهبان أكره أن يعوجا بأن محمدا سيسود فينا ... ويخصم من يكون له حجيجا ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا فيا ليتني إذا ما كان ذاكــم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
وبقي ينتظر ويكتم حتى إذا بُعث النبي جاءه فقال له : "ذلك هو الناموس الذي نزل على موسى وإنك نبي هذه الأمة، وقال له عبارة اختصرت كل سيرته، قال: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: ما جاء نبي بمثل ما جئت به إلا وآذاه قومه، ولئن كنت معك فلأنصرنك.
وظل بهذا ورقة بن نوفل على هذه الصورة، أي مسلما مؤمنا لا بما عنده هو من حب للدين، وإنما بما عرفه من كتب أهل الكتاب.
كذلك نحن نقرأ في سورة الأعراف قول الله تعالى قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيُّ الأُمِّيِّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أَنْزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: ١٥٦، ١٥٧]، ويبدو من الآية وتعداد الصفات أن وصف النبي كان موجودا عندهم بهذا التفصيل، حتى لا يبقى لهم إلا أنه كلما انكشف لهم أمر جديد قالوا: هذا هو الذي نجده عندنا في الكتاب حقا.
قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الشام في هذه الرحلة، ولذلك حكمة:
إن الشام هي البلد الذي اجتمعت فيه معظم النبوات، حتى قيل "ليس من نبي إلا وكان له في الشام شيئًا ولذلك فلا بد من شيء للنبي في الشام، لكن الله تبارك وتعالى جعلها له معجزة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، حيث اجتمع كل الأنبياء هناك، أولئك الذين أخذ عليهم العهد أن ينصرونه، وما كان هذا ممكنا الآن وهو في الثانية عشرة، ولم يبعث بعد- ثم كان ذلك بعد أن بعث، وفي سياق معجزة : وصف فيها المسجد الأقصى. ولو أنه وصل إلى الشام في هذه الرحلة لم يعد لهذه المعجزة معنى، إذ كان يُقال: إنما رأى المسجد الأقصى حينما كان صغيرا مع عمه أبي طالب، أما إذا تيقن الجميع أنه لم يذهب إلى المسجد الأقصى أبدا ولم يره ولم يدخله ولم يزره ثم عرف كل ما فيه، فهذه معجزة تدل على الإسراء. وإذا اجتمع الأنبياء جميعا -ومعظمهم كان مقره الشام - حوله فيُصلُّون خلفه في المسجد الأقصى فكأنهم يعطونه القيادة ولواء الإمامة.
وإذن، فوصوله إلى الشام في تلك الرحلة لم يكن في قدر الله - أمرا يخدم الدعوة ولا الرسالة. وإنما أريد تحقيق الإرهاصات والأدلة، وقد تحقق ذلك فلا بد من الرجوع إلى الجزيرة العربية وألا يخرج إلى الشام حتى ذلك الموعد المقدور.
إنك تجد عند النصارى الذين لا يؤمنون بمحمد : في دينهم، ، أن المسيح - عليه السلام- لما
أرسل، كان من ضمن رسالته وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: ٥٠]، وذلك أن اليهود لما عصوا الله وأوغلوا في العصيان عاقبهم الله - تعالى - بسبب ظلمهم فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء : ١٦٠] لقد عاقبهم الله بأن حرم عليهم بعض الطيبات. وهذا مثلما يعاقب الوالد ابنه الصغير بمنع ما يعطيه إياه من المال لما يتكرر منه من الخطأ، رغم أن هذا المال الذي يعطيه إياه مهم جدا من الناحية التربوية، فإن الطفل إذا حرم منه تماما فقد يدفعه هذا إلى السرقة من أقرانه، فإعطاؤه هذا المال هو في الحقيقة معين له على التزام الصفات الصالحة ولهذا أيضا يجب أن يُعطى للطفل ما يُشبع حاجته، ثم ما يشبع رغباته إلا قليلا لكي يتعلم الادخار، فإشباع حاجته ضرورة كي لا يضطر إلى التلبس بالسرقة أو نحو ذلك من الصفات السيئة، وإشباع رغبته وما يحبه يجب أن يكون بأقل من هذا ليتعود التدبير، فيكون لديه حد الكفاية والاحترام، ثم يُقَيَّد كل هذا بالتربية الصالحة ومعرفة الحلال والحرام ومراقبة الله، فيستقيم بهذا إن شاء الله. وفي هذا الوضع يمكن أن يُحرم من هذا المال عقوبةً عارضة، ساعتها لن يتعلم السرقة وإنما سيتعلم ألا يكرر هذا الخطأ ليعود إليه ما منع عنه، فيشعر بحلاوة الاستقامة.
أمة
لما أرسل الله نبيه موسى عليه السلام إلى اليهود، وكان قد وصل بهم العذاب حدا شنيعا: يُقَتَّل أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم ، وهذا أبشع ما يُرتكب في أمة، لأنه حين تقتل الرجولة في أ لا يبقى إلا انحراف المرأة، يبقى العوج، يبقى الجوع، يبقى الذل. أما إذا وجدت الرجولة فسيوجد الجهاد، ويوجد من يكتسب الرزق ليُنفق، وتوجد القوامة التي تحول دون انحراف المرأة. لقد حرم الإسلام سفر المرأة مع غير ذي محرم لأنها بغير محرم ضعيفة، قد تسمع كلمة فتميل إليها وربما لا تستجيب لها، لكن تكرار المحاولات مرة واثنتين وثلاثة ينشأ لها في النفس فسوقا، وهذا أمر طبيعي. إن المرأة العفيفة إذا تكرر على مسامعها الكلمات الرقيقة، فإن الكلمة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة تصنع هوى وميلا قلبيا لا يستطاع منعه.
فلذلك كان بنو إسرائيل الذين يُقَتَّل أبناؤهم ويُستحيى نساؤهم في بلاء عظيم، ثم لما نجاهم الله فجعل لهم الماء أرضا ساروا عليها، ثم جعل الأرض ماء على فرعون فأغرقته ليكون عبرة لمن يعتبر، لكنهم لم يحمدوا الله بل عبدوا عجلا صنعوه، وظلموا ظلما متواليا، فقال الله تعالى
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: ١٦٠].
فلما جاء المسيح ابن مريم، وكان بنو إسرائيل قد تأدبوا وعاشوا أزمنة منها مُدَّةُ تسمى العصر الذهبي لليهود، لأنهم عادوا إلى الله، جاء المسيح ليقول: (وَأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فوضح من هذا أن موسى جاء مهيمنا على ما قبله من الدين بشريعة جديدة، وأن المسيح لما جاء - أيها النصارى- جاء بما يهيمن على شريعة اليهود عندما أقرّ نفس العقيدة ولكنه أحل بعض
الطيبات.
فما العجب إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى في شأنه أنه يعيد الشريعة لأصلها، فيحل جميع الطيبات {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: ١٥٧]، لأنه الدين الخاتم الذي ! يتزن به أمر الشريعة إلى يوم القيامة، فما من طيب إلا وهو حلال، وما من خبيث إلا وهو حرام، وهذا شرع
الله الذي أرسل به محمد.
ومع ذلك كذبوا به برغم ما لديهم من علم كامل به.
ومن ذلك مثلا ما رواه ميسرة - غلام خديجة - لما رافق النبي صلى الله عليه وسلم في أول قافلة تجارية يديرها النبي، أنه نزل في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان، فاطلع الراهب على ميسرة، فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟، وميسرة لا يعرف شيئا بطبيعة الحال ومنتهى علمه أنه خرج مع تاجر، فقال: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
قد تكون هذه معجزة: أن يصرف الله الناس عن النزول تحت هذه الشجرة، كأن يكون ما تحتها مبتلا أو غير نظيف أو أن تكون أغصانها متكسرة لا تنشر ظلا أو غير ذلك، وفسرها بعض العلماء على أن الراهب يقصد أن الذي نزل تحت هذه الشجرة الآن ليس إلا نبيا.
والراهب هو العالم عند النصارى، أما الحبر فهو العالم عند اليهود، وإنما قيل راهب لأن النصارى هم من ابتدعوا الرهبانية، فأصبح من صفات عالمهم أنه راهب يترهب وينقطع للعبادة.
وثمة قسم آخر من الناس عرفوا النبي من قبل أن يُبعث أولئك هم المتحنُّفون أو الأحناف، وهم الذين اتبعوا الحنيفية، وسيأتي بعد ذلك من يقول : نحن أولى الناس بإبراهيم، فيرد عليهم الله تعالى بقوله {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: ٦٧]، فيُقال: فأولى الناس بإبراهيم أولئك الحنيفيون الذين جاءوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول الله تعالى بأن الأولى بإبراهيم صنفان إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل
عمران: ٦٨]
وذات مرة بينما يمشى أبو طالب ومعه ابن أخيه إذا بيهودي ينظر إليه فيصرخ بأعلى صوته، ويقول: يا معشر يهود....
إن الذي نسأل البشر جميعا عنه أن هذه الوقائع كانت قبل أن يُعلن محمد صلى الله عليه وسلم أنه نبي بسنين طويلة، وقت أن لم يكن يعرف هو أنه سيكون نبيا ما الذي يجعل كل هؤلاء يقولون: هذا نبي هذا الزمان؟ بحيرا والرهبان والذي صرخ في سوق اليهود: اقتلوا هذا الغلام وبكا وورقة بن نوفل وسلسلة متعاقبة من الرهبان اتبعهم سلمان الفارسي.
لا سبيل آخر أمام هذه الوقائع التي حدثت قبل أن يعرف النبي أنه نبي إلا أن تمتلئ قلوبنا يقينا بأنه نبي ورسول، وسيرته معروفة من قبل بعثته، يعرفها أهل العلم ممن سبقوه على كل
حال.
وإليك قصة سلمان الفارسي، فهي عجيبة جدا.. ويطيب لي أن أسميه "رجل تحرك في الكون“! وهي تدلك على أن أصحاب الكتب السابقة كانوا ينتظرون نبيا، ليس أي نبي وليس معرفة على وجه العموم، وإنما يعرفون صفاته ومكان خروجه وخصائص شخصيته، فلا تنطبق صفاته على أحد غيره.
يقول سلمان
كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي، وكان أبي دهقان قريته (أي ناظر الزراعة)، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تُحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قَطَنَ النار أي) (خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة.
(۳) انقطاع في التسجيل، ولكن فحواه أن اليهودي صاح: اقتلوا هذا الغلام، وقد كادوا أن يفتكوا به حتى استنقذ أبو طالب نفسه بالمناداة على الناس.
وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فُشِغَل في بنيان له يوما، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها وأمرني فيها ببعض ما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري.
فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمْرُ الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم وقلت: هذا -والله - خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام.
فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أي بني أين كنت ؟ أولم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت له: يا أبت مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير دينك ودين آبائك خير منه، قال: قلت له كلا والله، إنه لخير من ديننا.
فخافني، فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته وبَعَثَتْ إلي النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذنوني بهم.
فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها، قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة. فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه.
وكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه ،بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت لهم: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه. فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا. قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا. فصلبوه، ورجموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه.
يقول سلمان: فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس، أرى أنه كان أفضل منه وأزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه. فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله. فأقمت معه زمانا طويلا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان ، إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، فقد هلك الناس، وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات. فلما حضرته الوفاة، قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه، إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبه، فقال: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه. فأقمت مع خير ،رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك، قال: فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا أمرك أن تأتيه إلا رجلا من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا.
بعمورية
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، على هدى أصحابه وأمرهم. قال : واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة ثم نزل به أمر الله تعالى، فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان، فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه أصبح اليوم أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك به أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي، وهو مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مُهاجَرُهُ إلى أرض بين حرّتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد
فافعل.
(٤) نصيبين: مدينة تركية في الجنوب الشرقي، تقع على الحدود مع سوريا. (0) عمورية : مدينة في وسط تركيا.
ثم مات وغيب، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مَرَّ بي نَفَرُ من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا: نعم. فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده، ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي، فبينا أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث رسول الله، فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لغي رأس عَذَق (۱) لسيدي أعمل له فيه بعض العمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي.
قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك قلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.
فلما أمسيت جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله وهو بقباء، فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت: إنه بلغني أنك ليس بيدك شيء، وإن معك أصحابا لك وأنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي شيء وضعته للصدقة، فلما ذُكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به، فجئتكم به، ثم وضعته له، فقال رسول الله: «كلوا» ، وأمسك هو، قال: قلت في نفسي: هذه والله واحدة.
ثم رجعت وتحول رسول الله إلى المدينة، وجمعت شيئا، فسلمت عليه، وقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به من هدية أهديتها كرامة لك ليست بصدقة، فأكل وأكل أصحابه، قال: قلت في نفسي: هذه أخرى.
ثم رجعت، فمكثت ما شاء الله، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد
قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعلي شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله استديرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله : تحول، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي.
- عذق نخلة
- العرواء: الردعة والانتفاض.
- موضع المقابر الآن في المدينة.
- الشملة: الكساء الغليظ.
وتأمل هنا في هذا السبب التاريخي الذي حمل اليهود على الهجرة إلى المدينة، ذلك أنهم كانوا يعرفون صفتها وسمتها ويعلمون أنها مُهاجر نبي "أرض فيها نخل بين حرتين في جزيرة العرب، وهي أوصاف المدينة، ولك أن تعجب من هذا الذي هاجر أجداده ليكونوا ضمن دولة الرسول فلما قامت دولة الرسول عارضها وتمرد عليها، فهذا إنما يشهد دينه عليه بالظلم، فدينه الذي حمله على الهجرة إلى هذه الأرض بعينها.
وإلا فمن أين أتى سلمان بهذه الصفات ؟ إنما هو من علم أهل الكتاب.
إن الذين يعاندون الإسلام ما هم إلا جهلة أو مكابرون يعرفون الحق ثم ينكرونه، ولا ثالث لهما.
لقد أحصيت عدد الكتب التي سأنقل منها، من كتب الديانات السابقة، فوجدت أربعة عشر كتابا حافلة بذكر محمد صلي الله عليه وسلم ، بل وفيها ما سيأمرهم ،به، فلقد كان في تاريخ اليهود أمور مباحة ثم حُرّمت عليهم بظلمهم وذنوبهم، ثم جاء المسيح فأحل لهم بعض الذي حُرّم عليهم كما ذكر القرآن عنه وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران: ٥٠]، فكانوا يعلمون أن محمدا حين يُبعث فسيُحِلّ لهم بقية ما كان حلالا وحرّم عليهم. ولهذا فقد أنبأتهم التوراة بالأحكام قبل محمد، وكان الله يوجه نبيه {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [آل عمران: ۹۳].
ليست الكتب السابقة التوراة والإنجيل فقط، ولا أهل الديانات هم فقط أتباع موسى وعيسى عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
في مكة كان يتردد اسم إبراهيم عليه السلام، فهو الذي رفع القواعد من البيت، لم يبنه وإنما جاء في وقت كانت معالم المسجد الحرام قد انطمست ولم تكن معروفة وجهلها الناس وضلوا
الطريق إليها فعرفه الله تبارك وتعالى مكان البيت وقال (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ثم عهد إليه أن يطهر البيت وأن يرفع القواعد من البيت.
لقد وفدت قبائل من العرب المهاجرين، سُمُّوا العرب المستعربة، فسكنوا في هذا المكان الذي بدأت تدب فيه الحياة عندما فجر الله بئر زمزم من تحت قدمي إسماعيل عليه السلام، فصارت تحلق الطيور، فرأتها القوافل، فاستدلت على أن هنا ماء، فمن هنا سكنوها، ونشأت مكة ونشأت القبائل التي سيكون من نسلها قريش. فالقرشيون وجدوا في هذا المكان ببركة دعوة إبراهيم عليه السلام، فكان انتسابهم إليه أمرا بديهيا، إنهم لا ينتسبون لا إلى يهود ولا إلى نصارى بل ولا ينسبون أنفسهم إلى نبي الله ورسوله موسى عليه السلام ولا إلى نبي الله عيسى عليه السلام... وإنما ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم عليه السلام، وكانوا يفخرون بهذا، يقولون: نحن على دين إبراهيم. حتى الذين عبدوا الأصنام كانوا ينتسبون إلى إبراهيم، فهو الذي بنى البيت ورفع قواعده.
إلا أن أناسا آخرين اختلف شأنهم، فقد بحثوا في الكتب وعند أهل العلم عن دين إبراهيم، ماذا يقول، ثم صار يظهر بين الفينة والفينة من يقول: أنا أعبد الله على دين إبراهيم. بل منهم من قال: يا معشر قريش، والله الذي لا إله غيره ليس منكم أحد على دين إبراهيم غيري
هذه الطائفة اسمها المتحنفون، قالوا إن دين إبراهيم كان هو الحنيفية، فمن انتسب إليها فهو المتحنف، وذكرت الكتب أسماء بعض منهم مثل كعب بن لؤي (وهو الجد السابع للرسول)، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأميَّة بن أبي الصلت.. وآخرين. قالوا: إن عبادة الأوثان ليست من دين إبراهيم.
فمن أين جاءوا بهذا؟
إننا نقرأ في كتاب ربنا قوله تعالى إِنْ هَذَا لَفِي الصُّحُف الأُولَى صُحْفَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَلَقَد كان لإبراهيم عليه السلام صحفا، وقد انتقلت بطريقة أو بأخرى بين الناس، وحرفها البعض، كما وردت في صحف بني إسرائيل من طريق آخر، ووردت في صحف موسى، ووردت في الإنجيل الذي أوحاه الله إلى عيسى، ووردت في الكتابات التي كتبها أتباع المسيح عيسى عنه.
فجاء من كل ذلك الكلام عن إبراهيم وعن دين إبراهيم.
ومن هنا أخذ المتحنفون الذين كانوا يتبعون دين إبراهيم بهذا القدر الصغير الذي وصلهم، وفي هذا القدر الصغير كانوا يُبشِّرون ويعلمون ويُعلمون أن هناك نبيا رسولا اسمه محمد سوف يُبعث وهو نبي هذا الزمان.
وهنا نقف عند رجل كان ابنه في زمن رسول الله ، بل كان من العشرة المبشرين بالجنة، وهو أقلهم شهرة: سعيد بن زيد، واسم أبيه هو زيد بن عمرو بن نفيل.
ذهب سعيد بن زيد ليسأل رسول الله عن أبيه زيد، قال له: يا رسول الله، إن أبي كان كما قد رأيت وبلغك، ولو أدركك لآمن بك واتبعك، فأستغفر له. قال: "نعم فاستغفر له، فإنه يبعث يوم القيامة
أمة وحدة.
وانظر إلى سلطان الإسلام على النفس، إذا أخلص الإنسان نفسه لربه، سلطان الإسلام الذي منع رجلا أن يستغفر لأبيه في بيته إلا إذا سأل رسول الله، لأنه يسمع قول الله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أَوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، فلكونه لم يدخل في الإسلام توقف الرجل في الاستغفار لأبيه.
هذا الأب، زيد بن عمرو بن نفيل، أعلن أن هذه الأصنام باطل، وأن هؤلاء حرفوا اليهودية، وهؤلاء حرفوا النصرانية، وروي عنه أنه قال: "اللهم لو كنت أعلم على أي وجه أعبدك لعبدتك عليه، فكان يستغفر الله أنه لا يعرف كيف يعبده فلم يوح إليه ما يدله على مثل هذا.
ولهذا قال النبي عنه يُبعث يوم القيامة أمةً ، وحدَه ، فيأتي موسى عليه السلام بأمته ويأتي عيسى بأمته ويأتي إبراهيم بأمته، ويأتي سيدنا محمد بأمته، ويأتي زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده، لأنه عرف بطلان ما عليه الناس ولم يعرف أين الحق فأشهد ربه، فغفر الله له لأنه أسلم بهذه الكلمة، ولم تكن هناك نبوات.
وقد ورد عن هؤلاء كلام عن النبي ، فهذا كعب بن لؤي، وهو من المتحنفين وقد عاش قبل مولد الرسول بـ ٥٠٠ سنة، أو على وجه الدقة ٥٢٠ سنة، أي بعد رفع المسيح عيسى ابن مريم من بين أصحابه بأقل من ١٠٠ سنة، وقد حفظ العرب عنه بيت شعر يقول فيه:
على غفلة يأتي النبي محمد .. فيُخبر أخباراً صدوقا خبيرها
فهو ها هنا يُصرِّح باسم النبي، وأنه يكون في زمن قادم.
كما حفظت عنه العرب بيتا آخر يقول فيه:
يا ليتني شاهد فحواء دعوته .. حين العشيرة تبغي الحق خذلانا
فهو يعرف أن العشيرة سترفض ما جاء به من الحق، ويتمنى أن يكون شاهدا لتلك اللحظة.
ثم يقول نثراً وأَيْمُ الحق، لو كنت فيها ذا سمع وبصر ويد ورجل، لتنصبت فيها تنصب الجمل ولأرقلت فيها إرقال الفحل.
فأقواله هذه يُستدل بها على أن وصف النبي موجود في الصحف التي وصلت إلى المتحنفين
على قلتها.
أما أمية بن أبي الصلت فهذا رجل شهد أول الدعوة، وكان أيضا من المتحنفين، فقرأ في الكتب الأولى أن نبيا يُبعث من العرب، ورأى نفسه طيبا صالحا فطمع أن يكون هو هذا النبي، فلبس وشوح الأنبياء، وأخذ يجتهد في العبادة والطاعة ويكثر من ذكر الله ويذكر النبيين السابقين إبراهيم وإسماعيل ويذكر دين الحنيفية ويشرحه للناس ويبينه وحرم الخمر وهجر الأوثان وطاف بالرهبان، يفعل كل هذا طمعا أن ينال به النبوة ولكن النبوة لا تُنال أي لا يصل إليها أحد بالاجتهاد، وإنما هي اصطفاء من الله.
ومنهم أيضا قس بن ساعدة الذي كان يعظ الناس في الأسواق، ومنهم -كما ذكرنا- زيد بن عمرو بن نفيل. وقد رأى الرسول ثلاثة منهم: أمية بن أبي الصلت، وقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل. إن ما جاء عن المتحنفين لا يضيف فكرة جديدة، وإنما يضيف عنصرا جديدا، فكلام من تحفوا يؤكد ما جاء في التوراة والإنجيل.
الإسلام دين الأنبياء
إن دين الله واحد دائما، ليس ثمة أديان متعددة، وإلا لم يكن الأنبياء ليقولوا شيئا واحدا، إن الأنبياء قالوا نفس العقيدة، نفس الرسالة.. يقول تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ، ولا ينبغي أن نتعجب عندما يقال في عرض البشارات "مسلم" راهب يعبد الله على دين المسيح، لأن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، والرهبانية ابتُدِعَت لعبادة الله ابتغاء وجه الله، قال تعالى: {ورَهْبَانِيَّةُ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ.
إن نوحًا عليه السلام كان مسلما، دينه الإسلام، ومن قبل نوح جاء في الآثار الصحيحة أنه "كان بین آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام، أي: ألف سنة كلها على الإسلام.
وبعد ذلك أتي سيدنا نوح، الذي يقول الله تعالى عنه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (۷۱) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: ٧٢،٧١].
وإبراهيم عليه السلام النبي الثاني من أولي العزم من الرسل قال الله تعالى عنه {مَا كَانَ
إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: ٦٧]
ويذكر الله -تعالى- إسلامه في سورة البقرة، فيقول - تبارك وتعالى فيها: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (۱۳۰) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: ۱۳۰، ۱۳۱] وليس هو فحسب، بل {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بنيه } [البقرة: ١٣٢] وهم إسحاق ويعقوب، وكذلك وصى بها يعقوب بنيه، وهم سيدنا يوسف -عليه
السلام- والأسباط {يَا بَنِي إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: ١٣٢]. فإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط الأحد عشر كل هؤلاء كان دينهم الإسلام! بل يقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الحج عن إبراهيم - عليه السلام- {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: ٧٨]
واسمع قول الله تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: ١٣٣]. فالوصية التي توارثها الأنبياء هي الإسلام دين واحد ليس الإبراهيم دين غير الدين الذي جاء به موسى غير الدين الذي جاء به عيسى، دين واحد اسمه الإسلام منذ خلق الله الأرض إلى هذه الساعة.
وإنك لتجد ذكرا خاصا لسيدنا إسماعيل -عليه السلام - في القرآن الكريم في سورة البقرة، حيث يقول الله -تعالى-: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (721) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ١٢٧، ١٢٨]
ونجد لوطا عليه السلام وقد عاش في زمن سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل- مسلما، وذلك في قصة الملائكة الذين حضروا إلى سيدنا إبراهيم على هيئة ضيوف، فقدّم لهم طعاما {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: ٧٠]، وقوم لوط هم الذين أحل الله لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، فتركوا النساء وصاروا يأتون الذكران من العالمين فأرسل الله إليهم العذاب على يد الملائكة، فقال لهم سيدنا إبراهيم - كما في سورة الذاريات- قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (۳۱) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (۳۳) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: ٣١ - ٣٦]. فالبيت الوحيد الذي نجا هو البيت الذين على دين لوط عليه السلام، وهم المسلمون.. فالإسلام كان أيضا دين لوط عليه السلام الذي كان يدعو إليه قومه.
واسمع قول الله تعالى عن سيدنا يوسف عليه السلام، الذي جمعت قصته في سورة واحدة، ولم تأت في غيرها إلا إشارات قال عنه بعد أن اكتمل لسيدنا يوسف أمره على عرش مصر، وجاءه أبواه ورفعهما على العرش، وخرّ له إخوانه سُجَّدا، واستقر الأمر له كان آخر ما قال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بالصَّالِحِينَ} [يوسف: ١٠١].
واسمع قول موسى عليه السلام لقومه وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: ٨٤]. فالدين الذي أنزله الله على موسى اسمه الإسلام، ولذلك قال الرسول "لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني“.
ويقول الله تعالى عن موسى عليه السلام إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورُ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتَحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [المائدة: ٤٤ ، إذن يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون الذين أسلموا والأحبار الذين أسلموا.
وإنك لتعجب من قصة سليمان عليه السلام، وذلك أن بعض الأنبياء يسرد الله تبارك وتعالى قصة كونه مسلما ويدعو قومه إلى الإسلام في آية واحدة، بينما الأنبياء الذين فَصَّل الله في إسلامهم
هم الأنبياء الذين يتخذهم أعداؤنا اليوم عنوانا وشعارا؛ فهؤلاء اليهود يقولون نحن أتباع سليمان، ونريد بناء هيكل سليمان، والنجمة التي في رايتنا نجمة داود، ولهذا يكرر القرآن أن دين سليمان هو الإسلام ليس مرة واحدة بل أكثر من مرة:
ففي سورة النمل يقول الله تعالى حكاية عن ملكة سبأ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابُ كَرِيمُ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (۳۰) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأَتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: ٢٩ - ٣١]. فسليمان -إذن- يدعو إلى دين اسمه الإسلام.
وفي ذات السورة، لما عرف أن ملكة سبأ استجابت لدعوته، قال قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: ۳۸]، فهو إذن يشهد على من استجاب لدعوته أنه بذلك قد دخل الإسلام.
وفي ذات السورة لما دخلت الملكة إليه في عرشه ووجدت عرشها قالت: {كَأَنَّهُ هُوَ فيقول: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ.
ولما أسلمت الملكة قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: ٤٤].
وإذن، فالدين الذي كان يدعوا إليه سليمان، والذي استجابت له الملكة وكانت عليه هذه الأمم من الطير والجن والإنس والحيوان كان هو الإسلام.. ومن هنا فإذا قالوا: نهدم المسجد الأقصى لنبني هيكل سليمان فإنما يقولونها بظلم، فإن سليمان عليه السلام صلى خلف رسول الله في المسجد الأقصى؛ رسول الله إمام وسليمان يأتم به. فلقد أخذ عليه العهد كما قال الله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولُ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: ۸۱] فمحمد هو الرسول، وسليمان ضمن النبيين الذين أخذ عليهم هذا العهد. ولذا فإنه - عليه السلام - برئ من هذا الذي يقال.
ويتصل الموكب بالأنبياء حتى يختم بعيسى عليه السلام، الذي قال كلاما واضحا لا لبس فيه، وذلك حين أُرسل إلى قومه فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٥٢]. فها هو عيسى عليه السلام قد أرسل بالإسلام.
ويقول الله تعالى في سورة المائدة، إذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحٍ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ . في الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرُ مُبِينُ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 1. [1]
إذن.. كل هؤلاء كانوا على الإسلام.
والمسألة مشهورة، كي لا يظن أحد أن عمر الإسلام ١٤٠٠ عام فحسب، بل الإسلام دين كل الأنبياء. يدل على هذا أيضا حديث صحيح يقول فيه نبي الله الأنبياء أولاد عِلات، أُمَّهَاتُهم شتّى، ودينهم واحد، وبنو العلات هم الإخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم متفرقات.
ولذلك فنحن حين يقول المتحنفون عن الرسول شيئا، أو يقول اليهود، أو يقول النصارى... فنحن نقول لهم: إن الدين الذي كنتم عليه هو الإسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم حينما أتى ليدعوكم إلى دين إنما كان يدعوكم لدينكم، لا أنه كان يأمر بالخروج من الدين للدخول في دين آخر، وإنما هو الإسلام الذي أوحاه الله تبارك وتعالى إلى كل أحد من الأنبياء والمرسلين.
ماذا يبقى؟!!
آدم، ثم عشرة قرون بعده ونوح.. وإسماعيل وإبراهيم.. وإسحاق.. ويعقوب.. والأسباط.. ويوسف.. ولوط.. وموسى.. وعيسى.. وسليمان.. وداود.. وليس أولئك كل الأنبياء إذ إن الله لم يذكر لنا سوى ٢٥ نبيا في القرآن، ومع ذلك فقد جاءت آية جامعة في كتاب الله عز وجل...
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: ١٣٦].. والحقيقة أنها ليست آية واحدة، بل طائفة من الآيات تقول بوضوح لم يكن من دين في هذه الأرض أنزله الله تعالى ودعت إليه الأنبياء إلا الإسلام.. قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٨٤].
والمقصود من كل هذا أن الله تبارك وتعالى حين جعل دين الناس واحدا، فإن الذي يبدل فيه ويغير يكون هو الظالم.. أولئك الذين كتموا العلم وكتمان العلم هذا أمر خطير، لقد صارت للدول مباحث ومخابرات ودواوين لأجل أن تكتم العلم في أفواه وقلوب وصدور الذين يعلمون.. لماذا؟! لكي تتبد العقائد والأديان فتنشأ أديان جديدة غير التي أنزلها الله.. وهم كلما فعلوا ذلك أرسل الله رسولا يصحح الأديان السابقة وينبه ويحذر إلى مواطن الخروج والانحراف...
لذلك فإن آية آل عمران السابقة جاء بعدها مباشرة (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (۸۵) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقُ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (۸۷) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (۸۸) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمُ} [آل عمران: ٨٥ - ٨٩]
ونفس هذا المعنى في قول الله تعالى قبلها بآيتين (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولُ مُصَدِّقُ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (۸۱) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (۸۲) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: ۸۱ - ۸۳]
كل هذا يثبت أن دعوة الأنبياء جميعا دعوة واحدة، دين واحد اسمه الإسلام. والله تبارك وتعالى لم يُسَمِّ ما أنزله أديانا بل دينا واحدا كما في سورة الشورى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرِّقُوا فِيهِ} [الشورى: ١٣]. فجعل دين كل الأنبياء دينا واحدا هو الإسلام.
لم يبق إلا آيات في منتهى الأهمية في سورة القصص عن الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، وحتى المتحنفين، وذلك قوله تعالى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) {وَلَقَدْ وَضَلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: ٥١،٥٠]. وتأمل في هاتين الآيتين الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ
[القصص: ٥٢ ٥٣]
لما جاء النبي وتلا عليهم القرآن آمنوا به، لكن المهم هنا هو أنهم ذكروا سبق إيمانهم بالدين من قبل أن يسمعوا القرآن، فالقرآن دينهم الذي حدثتهم عنه التوراة والإنجيل... فلما آمنوا ذكر الله جزاءهم بقوله: (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذَا سَمِعُوا اللّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامُ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: ٥٤، ٥٥]
لهذا، فالأمر وبكل الوضوح أن الإسلام لما جاء إنما كان يدعوهم إلى دينهم نفسه، حقيقة دينهم الذي كانوا عليه، لم يكن الإسلام دينا خاصا بنا نحن إنما هو الدين الواحد الذي أرسل به الرسل إليهم من قبلنا، وكانت دعوتهم أن يؤمنوا بدينهم....
الخاتمة: خطورة كتمان العلم وتحريف الدين
لكن السؤال هنا: ما الذي جعلهم يُغيرون ويبدلون؟
إن أخوف ما أخاف منه، وما يجب أن نخاف منه جميعا، الحديث الذي يقول فيه الرسول: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٌ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ ؟ أي : فمن غيرهم والضب: هو الفأر الصغير، أي أن اتباعهم سيصل إلى
درجة عالية.
لقد قيل هذا الكلام للصحابة ؟ ففزعوا.
فلا بد أن نكون في منتهى الخوف، أن نضل الطريق، بحيث أنهم كما خربوا دينهم نخرب نحن ديننا.. أمر في منتهى الخطوة!
فكيف خرب هؤلاء دينهم الذي هو الإسلام ووصلوا به إلى هذا التردي؟!
إن الدافع قد يكون أنهم اتبعوا أهواءهم بغير علم، إنما أخطر من هذا أنهم أَتْبَعوا ذلك
بأمور منها: كتمان العلم.
كتمان العلم أن يسكت الذي عنده العلم!
هذا يؤتى به يوم القيامة، ليس شيطانا أخرس فحسب وإنما يؤتى به يوم القيامة ويعذب، لأن الله لم يأمر الذين آمنوا أنهم إذا سُئلوا أجابوا، وإنما أخذ الميثاق بأمر آخر، أخذه ببيان العلم ابتداء من غير أن يكون سؤال، قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: ۱۸۷].
إن الطغيان السياسي اليوم يعم البلاد ليس من بلد اليوم تخلو من الطغيان السياسي، وقد أقاموا أجهزة المباحث والمخابرات أجهزة ضخمة من أجل أن تُكتم درجة معينة من درجات الحق، يُسمح بالقول لكن إلى حد معين لا يصل إلى درجة الحق هذه. فيظل جزء من الدين مختفيا، فإذا قيلت وظهرت توصم بأنها تطرف" و"إرهاب"، مع أنها من الإسلام، إذا فتحت القرآن وجدتها فيه.
وقد حدثت واقعة بين الرسول وبعض أهل الكتاب، سألهم عن الحكم في قضية فقالوا له: الحكم كذا ، فقال لهم لا بل الحكم الذي في التوراة هو نفسه الحكم الذي في القرآن، هاتوا التوراة واتلوها، فأتى صاحبهم فوضع يده على موضع من التوراة وظل يقرأ فقال النبي له: ارفع يدك، فكان تحت يده الحكم المراد.
هذا المشهد المضحك، رجل يضع يده على شيء من الصفحة كي لا تظهر للناس، هو الحقيقة التي حدثت عبر قرون طويلة، أن يظل جزء من الدين مكتوما أن يكون الحديث مسموحا به إلا في جزء بعينه، مع أنه من صلب الدين. فهذا من أخطر ما تتعرض له الأمة الإسلامية، ومن أخطر ما تعرض لها من قبلهم الكتمان
هذا الذي يكتم العلم فيريح نفسه في الدنيا، يأتي يوم القيامة فيُعذِّب أشد العذاب، ذلك أن الله أنعم عليه بالعلم ليبينه للناس، لا ليكون سدًّا يحجب الناس عن نور الله!
إني لأعلم بعض الناس الذين يؤم دروسهم الآلاف، بدأ الأمر معهم بأن اتفق مع واحد فحسب أن يعلمه، ثم زاد الواحد إلى اثنين ثم إلى أربعة ومائة وألف وثلاثة آلاف، وأصبح لقاء مشهودا ويُبنى ويُربى عليه. لأن ذا العلم مأمور بالبلاغ ولو لم يوجد إلا واحدا فيجب أن يُبلّغ، لا بد أن يبلغ، ولا يسعنا أن نسكت.. لا يسعنا أن نكتم الحق.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه. فيقول الله -عز وجل- له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى“.
فيذهب العبد إلى نار جهنم انظر كيف لم يصمد لله خمس أو ست سنوات، فيوضع في نار جهنم خمسين أو ستين سنة! والعياذ بالله.. ومن يصبر على نار جهنم ؟!
إن أي أمة ترتضي أن تكتم من دين الله شيئا سيحدث لها مثلما حدث مع اليهود والنصارى، صار دينهم غير الدين الذي نزل على نبيهم.
وقد يسأل سائل: إن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، فلن يحدث تحريف.
وأنا أقول بأن القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فالله هو حافظه، أما التوراة والإنجيل فقد عهد الله بحفظهما لأهل الكتاب فقال { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: ٤٤] فكان الناس هم المستحفظين، فلن يضيع القرآن مثلما ضاعت التوراة والإنجيل.
أما نحن، فنحن المكلفون بحفظ تطبيق هذا الدين، حفظ إقامة أحكامه.. لا أن يأتي أحد فيكتم أمر الحكم بما أنزل الله فيخفيها خوفا وحرصا ولذلك يأتي ضباط الأجهزة الأمنية فيقولون: ما بال الدين الذي تتكلم فيه غير الدين الذي يتكلم فيه غيرك، لماذا لا تتحدث في الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وإطعام المسكين ... إلخ
صحيح أن هذا كله في دين الله، وفي دين الله أيضا الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله، وإقامة الدولة الإسلامية.
أنا مكلف بالبيان، لا أضع ولا أرفع شيئا من كتاب الله إن وظيفتي أن أتكلم في الإسلام كما هو الإسلام.
إنني إذا دخلت في الصلاة أقرأ في سورة البقرة (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} [البقرة ١ - ٣]، وفي سورة البقرة نفسها الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة: ٢٧٥]، فهل يسعني أن أقفز عليها ؟!
بل يجب أن أقرأها ، ومن رضي أن يكتم فإنه هو الذي يبدل الدين.
يجب أن أنتبه إلى أن الذين جاءهم وصف النبي بدقة في كتبهم ثم كذبوه إنما كان ذلك نتيجة
الكتمان
يوم القيامة يأتي الناس بين يدي الله يقفون فيهم الضعفاء وفيهم الأقوياء، يقول الضعيف: يا رب، لم أكن أستطيع الوقوف أمام هؤلاء، لقد كانوا السادة ونحن الضعفاء، فكتمنا، اقرؤوا قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: ٩٧]، فلم يكن هذا حجة لهم، بل قيل: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، ثم ذكرت الآية أن مالهم إلى جهنم فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: ٩٨] فالشيخ الكبير أو النساء أو الأطفال الصغار هم المعذورون.
إن القرآن يقول أنه لا يخضع ضعيف لقوي في معصية ما إلا بإجرام في نفس الضعيف، إجرام يستحق العذاب، كما يقول الله -تبارك وتعالى - في سورة سبأ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: ۳۱] فانظر كيف سماهم القرآن جميعا ظالمين؛ القوي ظالم والضعيف ظالم، لأن القوي لا يتفرعن إلا لأن الضعيف لم يحافظ على حقوق الله.
يقول الضعفاء للأقوياء: لولا أنتم لكنا مؤمنين، فإذا بالذين استكبروا يقولون {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ: ٣٢]
لماذا لم يُقْبَل عذر الضعف من الضعيف؟ لأنه لم يخضع للقوي إلا لما فيه من الإجرام، إجرام اختيار الدنيا على الآخرة، فإن الآخرة في يد الله لكن الدنيا تبدو في يد هذا القوي، فاختار الدنيا التي في يد هذا القوي على الآخرة.. فهذا هو الإجرام.
إن كتمان العلم يأتي من هنا، وقد عرف الضعفاء أن نفوسهم أحبت الدنيا، وحب الدنيا هذا هو الذي أنزلهم هذا المنزل، فردوا على الأقوياء بأنهم من زرعوا فيهم هذا، قالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَعْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: ٣٣].
فاحذر من كتمان العلم ، احذر أن تكتم علما في أبسط شيء، في رجل ضرب رجلا، أو رجل أخذ قرشا من رجل وأنت شاهد، ثم لم تشهد بالحق، إياك أن تكتم الشهادة في قضية ولو بسيطة، قال تعالى {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آئِمُ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣].. فكيف بكتمان الدين؟!
أنت مأمور أن تبين للناس وألا تكتم، فإياك أن تعتاد كتمان الحق وأنت تعرفه، وإلا فهذا هو بيع
الدين بثمن بخس بثمن بخس جدا.. قل الحق ولو بقدر ما تستطيع.
إن بلال بن رباح وهو يُعَذِّب ويُضْرب والصخرة على صدره، كان يقول : أحد أحد.. ثرى لماذا؟ لأنه يرى الحق والإسلام والدين وليدا، وليدا صغيرا ينمو، وعاين التعذيب الشديد الذي يحاول قتل الوليد الصغير بهذه القوة والشراسة، فخاف.. خاف من هلاك هذا الوليد الصغير، فعزم أن يبقى هذا الحق الوليد ولو بأن يرفع بنانه ويقول: أحدُ أحد.. كي يبقى صمود الوليد كيف يفشل التعذيب في أن يقهر الدين، وهكذا كان من معه مثل عمّار وخباب وسمية وياسر.
يجب علينا أن نقف عند الدين، فالحق حق.
إن التحريف والتبديل في غاية الخطورة، أن ترفع شيئا وتضع شيئا لم يقله الله، بل قال غيره، فترفع أنت ما وضعه الله وتضع شيئا من عندك، هذا وضع مؤسف وخطير.
إن ثمة من يهاجم السنة النبوية، يقول: لا أدري ما هو الصحيح وما هو الخاطئ، هذا صحيح وهذا ضعيف، فلنترك السنة كلها.
إن مثل هذا كالذي لما سمع رجلا يقول: هذا ابني وهذا ليس ابنا لي، قال له: دعك من هؤلاء جميعا، فليسوا بأبنائك!!
إن مثل هذا كالذي لما سمع رجلا يقول: هذا ابني وهذا ليس ابنا لي، قال له: دعك من هؤلاء جميعا، فليسوا بأبنائك!!
إن الاعتراف ببنوة أحدهم ونفي بنوة الآخر، يثبت أن الرجل يعرف أبناءه وأنهم معروفون
معدودون، فالحديث إذا قيل: حديث صحيح وحديث ضعيف وحديث حسن وحديث كذا وحديث كذا، فهذا معناه أن الأحاديث معروفة. ولذلك لما أُمر بقتل زنديق قال لهم: "أين أنتم من ألف حديث وضعتها فيكم أُحرّم فيها الحلال وأُحلُّ فيها الحرام، ما قال النبي منها حرفا، فقال له هارون الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ؟ فإنهما ينخلانها نخلاً فيخرجانها حرفاً حرفاً. فإن العلماء وضعوا علم الرجال فيعرفون من روى عن من ومن سمع من.
هل تظن أن الحديث الذي تقرؤه أتى هكذا؟ لا، إنما الحديث الذي يقال معروف من سمعه من النبي، ومن سمعه منه، ومن سمعه من الثاني، وهكذا سلسلة السماع حتى وصلت للكتاب الذي سُطّرت فيه كالبخاري وغيره، ثم طبعت وصارت مشتهرة بين الناس.. هذه السلسلة من السند معروف أشخاصها ، أسماؤهم وأحوالهم ورحلات سفرهم وما درسوه وهل مرض قبل موته أم لا، ومنهم -مثلا- من عاش ثمانين سنة، فنحن نتتبع حياته ولو وجدناه ظل سبعين عاما صالحا وتقيا ونقيا وورعا وإماما في العلم ، ثم غاب عنا خبره وجهلنا تاريخه في العشر سنين الأخيرة من عمره... هذا الرجل، لو كان موجودا في سلسلة السند لا تُقبل روايته إلا حين نعرف هل روى هذا الحديث في السبعين عاما الأولى، ومالم نعرف هذا فلا تؤخذ منه الرواية.
هذا التشكيك في الدين يُقصد به اختلال الدين، فانتبهوا...إن علماء الحديث يعرفون رواة السند أكثر مما يعرف الداعية من يحضرون دروسه، أكثر مما أعرف أنا من يحضرون أمامي جميعا، والسلام
Allah.com Muhammad.com Mosque.com (Al Aqsa)
Azhar.IndonesiaMIT.com
Available in word, PDF and html in 133 languages
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
فلتسقط كل مسميات الجماعات المختلفه (سلفية، إخوانية، جامية الخ) فانسلخ منها جميعا ويكفيك
أين الطريق - من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي -
البرنامج التعليمي لكل مسلم أزهري أو غير أزهري؟
ردود وأجوبة معاصرة على شبهات الجهل
Contemporary Responses and Answers for Suspicions of Ignorance
فقرات تكررت بكل كتابات وخطب ومحاضرات
شيخ الأزهر الحالي الدكتور أحمد الطيب
شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود
شيخ تفسير القرآن والدعوة الدكتور محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف السابق
شيخ الحديث الدكتور عبد الله بن الصديق الغماري
شيخ الدعوة الدكتور حازم صلاح أبو إسماعيل
- فك الله أسره من سجن السيسي بمن يردعه -
اقرأ أيضا
ما لا نعرفه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
What we all Do not Know about the Messenger of Allah
may Allah bless him and his family and grant them peace
الفهرس
مقدمة.
الهداية كيف تكون .
الحرية في الإسلام.
الهدف من الخلق
فهم القرآن
مكانة المرأة وحقوقها
ثقافة الكراهية
الله في خلقه شئون ..
عصمة الأنبياء
تعدد الزوجات .. ..
لا يتوقف أمر الدين على المعجزات
بين المعجزة والكرامة
العلاقة بين الدعاء والقدر
الطلاق.
عدم فهم التعارض الموهوم
الخاتمة
مقدمة
إن أعداء الإسلام وهم مؤسسات ودول يعملون بقوة ضد الإسلام، يلتقطون الشبهات ليشوهوا صورة الإسلام، وليثيروا الريبة في نفوس أبنائه أنفسهم، ومع الأسف فقد استولوا على بعض الذين يتصورون أنهم مثقفون ليصبحوا خدمًا لهم، يعني أصبح من قومنا ومـن
شعوبنا من هم خدم لهذه الأفكار.
وهذا الأمر له سبب واحد وهو أن معلومات هؤلاء
الخدم عن الإسلام لا تأتي من الإسلام، وإنما تأتي من أعداء الإسلام عن الإسلام.
وحول الشبهات التي تدور بذهن بعض المسلمين أو التي تكون مدخلاً لأعداء الإسلام كي يسمموا بها أفكار المسلمين ويثيروا الريبة في نفوسهم، ومنها مكانة المرأة وحقوقها ومدى عصمة الأنبياء ومشروعية الطلاق في
الإسلام وحكمته وكذلك تعدد الزوجات والرق والعلاقة بين القدر والدعاء وكيفية فهم القرآن والهدف من الخلق وغيرها من الموضوعات الشائكة التي نسأل الله تعالى أن يعيننا على فهم الحق فيها
واتباعه وتبيانه للناس.
حازم صلاح أبو إسماعيل
الهداية ..
كيف تكون؟
الهداية .. كيف تكون؟
إن من أكثر الخواطر ترددًا على أذهان المسلمين وهم يسمعون آيات القرآن الكريم، والمسلمون - جزاهم الله خيرا - يقاومون هذا الخاطر، ويحاولون ألا يظهروه، وأن يخفوه وأن يكبتوه في أنفسهم خوفًا من أن يكون هذا الخاطر فيه شيء من عدم الإجلال والاحترام لمقام الله رب
العالمين ..
إن هذا الخاطر يسأل عنه كثيرون، وهو أنهم وهم يقرؤون القرآن يمرون كثيرًا بقول الله عز وجل: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ [النحل: ٩٣] ، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فتطرأ على الذهن شبهة، هذه الشبهة تقول : إذا كانت الهداية والإضلال مرتبطين بمشيئة الله عز وجل، فكيف يحاسبنا الله على أفعالنا؟! نحن نعلم أن الله عدل ولكن نريد أن نفهم كيف يحاسبنا وهو يهدي من يشاء، ويضل من
يشاء ؟
وكما ذكرت أن المسلمين يقاومون ويحاولون أن يخفوا هذا الخاطر حتى لا يقعوا فيما يناقض إجلال الله - عز وجل - لكن في الحقيقة هذا ليس منهج الإسلام منهج الإسلام هو تجلية الحق، وإظهاره، منهج
الإسلام ليس أن تمنع نفسك من طرح مثل هذا السؤال، بالعكس منهج الإسلام أن تُظهر ما عندك من سؤال؛ لأن الإسلام ليس عنده ما يخفيه الإسلام دين قادر على أن يجيب على كل سؤال بتمكن واقتدار وكفاءة تامة.
ولذلك سبحان الله ! بعض المسلمين أيضًا بدأوا يخرجون المسألة الأزمة، وليجعلوها متناسبة مع العقل الحديث، فقالوا المقصود من الآية أن الله يضل بها من يشاء أن يضل ويهدي من يشاء أن يهتدي فيجعل الضمير عائدًا على الشخص نفسه.
وأنا أشكر هؤلاء لغيرتهم على الإسلام، ولكن أنا أريد أن أجعل المسألة مستحكمة ثقة مني في دين الله، وفيما يطرحه من آيات الهدى البينة الرائعة، يقول الله تعالى: مَن يَشَا اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم ﴾ [الأنعام: ۳۹] ، من يشأ الله، فالمشيئة راجعة إلى الله، ويقول: ﴿ مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مرشدا ﴾ [الكهف: ١٧] .. لقد ذكروا أن الله هو الذي يقول: أتريدون أن
تهدوا من أضل الله، فيكون قد ذكر أن الله يضلهم ..
فأنا أريد أن أقول لكم إن القرآن حتى حين يقول فمن يهديه من بعد الله، فمن يهدي من أضل الله واضح وصريح في أن الله هو الذي يهدي وأن الله هو الذي يضل ..
الآن قد حكمت لكم الموضوع حتى نصعبه .. حتى تفرحوا معي
بعد ذلك بفهم آيات الله ..
إن هذا الدين لا يقوم به من يجهله أبدا، ولا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه وفهمه. من أشرق الإيمان في قلبه، وأشرق النور في عقله وذهنه وفي فهمه وإدراكه ...
يقول الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَلِمُونَ ﴾ [العنكبوت] إذن نور الله – عز وجل – في هذا -
القرآن.
ولقد ظهرت هذه الإشكالية وهذا التساؤل الذي طرح لدى البعض على أن المسألة مسألة مزاج مزاج الله وحاشا لله أن يقول الإنسان على الله - عز وجل - ما لم يقله الله .. إذ يتصور البعض أن المسألة تتعلق بالحالة المزاجية، وطبعا الله ليس كمثله شيء، لكن حاشا الله ذلك، هذا ليس شأن الله أبدا .. بل شأن الله - عز وجل - أن كل - شيء عنده بمقدار، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَرَهُ نَقدِيرًا ﴾ [الفرقان: ۲] ، وإِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ لا [القمر ) ، و سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تجدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا [الفتح) ، وَلَا تَجِدُ لِسُنَتِنَا تَحْوِيلًا ) ﴾ [الإسراء:٧٧] ، فهناك معيار محدد، مقياس محدد .. لكن من أين نأتي بهذا المعيار والمقياس في قوله تعالى : يهدي من يشاء ويضل من يشاء) ؟
لقد فهم البعض أن الإضلال والغواية مسألة بدون معيار، لكن في حقيقة الأمر عندما يقول الله - سبحانه وتعالى - إنه يضل من يشاء، فقد ذكر هذه الفئات المحددة التي شاء الله إضلالها، أو يشاء الله إضلالها، ذكرها تحديدا .. كما أنه ذكر الفئات التي يشاء الله هداها، ذكرها مثل القانون.
القانون يقول: إلا الفئات كذا والفئات مذكورة في مواد أخرى فكذلك كأن القرآن يقول : إن الله يهدي من يشاء ممن ذكرته لكم في آيات القرآن أن الله يشاء هداه والله يضل من يشاء من الفئات التي يشاء الله إضلالها ممن ذكرها في القرآن ...
والسؤال من الذي يشاء الله إضلاله، ومن الذي يريد الله هدايته قد ورد في نص القرآن .. يقول الله تبارك وتعالى مثلاً عن الذين يضلهم الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّلِمِينَ ﴾ [إبراهيم: ۲۷] ﴿وَمَا
يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة : ٢٦].
إذن هؤلاء قوم اتخذوا قرارًا بالظلم أولاً، فدخلوا في فئة اسمها "الظالمون"، ولقد ذكر الله أنه يضل الظالمين، وهؤلاء اتخذوا قرارًا مسبقا بالفسق والله تعالى ذكر أن الفاسقين يضلهم الله، وذكر الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفُ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: ٢٨] .. هؤلاء
أسرفوا على أنفسهم في المعصية والكذب، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ [الزمر: ٣] ، فالآيات محددة والمسألة ليست مطلقة كأن يختار الله مثلاً فلانا ليهديه، وفلانًا فلا يهديه، لا .. حاشا لله أن
يكون الأمر بهذه الصورة، وإنما هو معيار منضبط، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخاينين ﴾ [يوسف: ٥٢] ، مع أن هذه الآية لها أيضًا بعد آخر، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ
اتخذوا
لَا يُؤْمِنُونَ بِنَايَتِ اللهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللهُ ﴾ [النحل : ١٠٤] يعني هم | قرارا بالكفر فأصبحوا خارج دائرة الهداية، اتخذوا قرارا بالظلم، فأخرجوا أنفسهم خارج دائرة الهداية، هذا قرارهم المسبق، هم اتخذوه، هم أسرفوا هم كفروا هم خانوا .. ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ وَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سبيلا [النساء] الآية ذكرها الله عن المنافقين، إذ إنهم يتلاعبون بالدين .. وإِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كَفَرًا لَّمْ يَكُن اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء] إذن هم فئة محددة، متلاعبة بالدين؛ لذلك فإن الله يضل من يشاء لأنهم استحقوا هذا الإضلال .. يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا )) [النساء] في الآية الأولى "ولا ليهديهم سبيلاً، وفي الثانية "ولا" ليهديهم طريقا" .. إن الذين كفروا
وظلموا وهذه الفئة جمعت بين الكفر والظلم .. إذن الله لا يهدي الكافرين الله لا يهدي الفاسقين الله لا يهدي الظالمين، ولا يهدي المنافقين، ولا يهدي المتلاعبين ولا يهدي من هو مسرف كذاب، ولا يهدي من هو كاذب كفار ...
إذن هي فئات ذكرها الله تبارك وتعالى، حتى عندما ذكر عن قوم الوسمعُون لِلْكَذِبِ أَكَلُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: ٤٢] .. وقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة:٤١] ثم قال عن هذه الفئة: ﴿أَوَلَتَيكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُظْهِرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ [المائدة: ٤١] . لذا حينما تسمع قوله تعالى: "إن الله يضل من يشاء " إياك أن تعتقد أنها فئات مجهولة، أو مسألة متروكة للهوى .. وإنما هي سنن وقواعد وقوانين ومعايير أوحاها الله إلينا، وعرّفنا بها، ولكننا نمر على آيات القرآن، ولا نقف عندها برغم وضوح الرؤية في آيات القرآن بشأنها .. أما الهداية .. سبحان الله ! فقد ذكرها الله تعالى أيضًا تحديدًا حتى نعلم أن الآية تحيل إلى آيات أخرى، لأن العبرة بمجمل آيات القرآن، مثلاً يقول الله - سبحانه وتعالى: ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ (۳) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أَوَلَكَ الَّذِينَ هَدَتُهُمُ اللَّهُ وَأُولَيَكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَبِ
[الزمر ..
إذن يهدي الله أصحاب صفات أولي الألباب، وفي سورة الرعد صفات لأولي الألباب والسؤال من هم أولو الألباب؟ ويمكننا
معرفة ذلك من تتبع صفات أولي الألباب في القرآن الكريم ..
أيضا يهدي الله ،المتقين وكذلك من الذين يهديهم الله من اتخذوا قرارا بالإيمان والعمل الصالح، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ ﴾ [البقرة: ۲۷۷] يقول الله تعالى عنهم والذين اهتدوا، هم آمنوا واتخذوا قرارًا بالهدى ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَانَهُمْ تَقْوَنهُمْ ﴾ [محمد] وَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عليمٌ ﴾ [التغابن: ١١] لما جاءهم الهدى اهتدوا ..
إذن هؤلاء اتخذوا القرار، فالله لا يعبث حاشاه ذلك، بل إن الله جعل لنا مشيئة، قال من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فلا يعطل هذه المشيئة .. ولهذا قال تعالى: ﴿ وَمَن يَعْتَهِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى إِلَى صِرَاطٍ
مستقيم [آل عمران: ١٠١] فهم اعتصموا بالله ..
ويقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَلَهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: ٥٠] اتبع هواه بغير هدى من الله هو لا يسير على هدى من الله، وإنما هو يسير هكذا يدخن السجائر ويصادق زميلات في العمل، والأمور لديه غير منضبطة تماما وأحيانًا يصلي وأحيانًا أخرى
لا يصلي .. هو شخص يتبع هواه بغير هدى من الله .. يقول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ ﴾ [النساء : ٦٦] فهذه خطوة يقوم بها المسلم، ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا فَهُمْ وَأَشَدَّ
تنبيتا ﴾ [النساء: ٦٦]، ﴿وَإِذَا لَا تَيْنَهُم مِّن لَّدُنَا أَجْرًا عَظِيمًا
وَلَهَدَيْنَهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء]. )
)
إذن الهدى للذي يستمع للموعظة وينفذها، فيأتيه الهدى، ويتبعه، وهذا بخلاف الذي يأتيه الهدى ولا يتبعه .. فحينما يقول الله – عز لا وجل: "إن الله يهدي من يشاء" ليس معناها أن الله يهدي من يستحق، فهو الله تعالى رب العالمين، ليس كمثله شيء، فكل شيء عند الله تعالى بمقدار، يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبلنا [العنكبوت: ٦٩] .. جاهدوا أي تحركوا إلى الله -عز وجل -
فاستحقوا الهداية ..
والسؤال : ما هي العملة .. عملة الهداية وعملة الغواية؟
هي
الخطوة السابقة، الله تعالى بعث إليك الهدى، فتقبله أو العملة ترفضه، إن قبلته فقد حزت العملة التي بها تشتري الهدى، أنك قبلت وأقبلت، وإن رفضت الهدى، فإنك بذلك تكون قد فقدت العملة،
وليس معك عملة لشراء الهدى.
لذلك كما ذكرت من قبل ذكر القرآن عن قوم أنه هداهم وهم كفار، وقال إن الله قد هداهم .. قال عن ثمود الذين عُذبوا وماتوا كفارا: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَهُمْ ﴾ [نُصِّلَت: ١٧] ثم قال: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى على الهدى لم [فُصِّلَت: ۱۷] ، وعن فرعون وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ الله [النازعات: ١٩] أي أنه هو الذي رفض الهدى، وقال عن آزر والد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو عمه، يَابَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِن الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم] سأهديك ... الهدى معناها الدلالة على الخير، بل إن الله - عز وجل - يذكر أن الكفار اتخذوا قرارًا بألا يؤمنوا، ﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ يُتَخَطَّفَ مِنْ أرْضِنَا ﴾ [القصص:٥٧] .. ويقول تعالى: ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ) [الأنعام: ١١٦] هذا وصف عن الكفار .. وقال: ﴿وَإِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّتِهِمُ اهْدَى ﴾ [النجم: ٢٣] ما هذا؟ أيذكر القرآن عن قوم أنهم قد جاءهم من ربهم الهدى وهم يتبعون الظن وما تهوى الأنفس وهم كفار ؟ والجواب نعم .. وذلك لإبطال
حجتهم يوم القيامة. ولذلك حينما تقرأ سورة الزمر تجد ردّا على من يريد أن يتحجج وذلك حتى لا يأتي شخص يوم القيامة ويقول ﴿ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَيني تككُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [ الزُّمَر : ٥٧] حتى لا تزعم نفس هذا ..
وهذا الكلام يقوله البعض، فيقول أحدهم: "لو كان الله هداني لكنت وكنت لكن هذا أمر خاص بالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ويبدو أن الله لا يريد أن يهديني" وهذا كلام خاطئ، وللأسف بسبب مشاهدة الأفلام والمسلسلات والممثلين والممثلات، صارت ، ثقافة المسلمين اليوم، يقول الله – عز وجل – في هذا الأمر:
هذه
هي
اوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَيني لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [ الزُّمَر] ثم يقول: بلى يعني بلى بل هديتك وأعطيتك الهدى، ﴿ بَلَى قَدْ جَاءَ تكَ ايْنِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَفِرِينَ )
الزمرا.
ولذلك لابد أن نعلم قوله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ربه في الحديث القدسي: "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب
إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة".
طبعا هذا تمثيل لمعنى اللفظ وليس لفعل الله، فلابد إذن من اتخاذ
خطوة، وخطوة من الله - عز وجل - أنه أرسل رسوله بالهدى والدلالة على الخير ودين الحق ليظهره على الدين كله، فمن استجاب وآمن وأجاب واتبع فإن الله سيعطيه الهدى، ومن رفض وكفر وظلم وكان مسرفا ومرتابًا وكذابًا وظلومًا وكفر ثم أمن ثم كفر ثم آمن ثم
كفر وتلاعب ولم يؤمن بآيات الله و .. و .. فإن الله تعالى يضله.
كيف يضله الله ؟
هذه نقطة هامة جدا، فالناس يتصورون أن الله له فعل إضلال وإنما يقول الله تعالى: ﴿ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأعراف : ١٨٦] .. فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [يونس ] .. إذن الإضلال أن يُتركوا فيها اختاروه بل لا يكتب الله تعالى عليهم الضلال بمعنى أن يجبرهم عليه وإلا فأين ذلك من قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف:٢٩] فتقول له يا رب كيف أشاء أنا إن كنت تجبرني، فيقول لا، الضلال هنا هو مجرد أنك تترك، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا
وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان].
إذن مسألة الإيمان والكفر ليست مسألة مطلقة بدون قواعد، وإنما
هي مسألة تتم طبقا لقواعد محددة سلفا.
مولفات : ردود وأجوبة معاصرة على شبهات الجهل
الحرية في الإسلام
يقول الله عز وجل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: ١١] .. إن العلم هو هذا الذي
نفعله حين نتدارس آيات الله عز وجل.
ومن الأمور التي ترد على أذهان البعض مسألة الرق، كيف يسمح الإسلام أن يكون بشر مالكًا لبشر آخر ونحن نقول إن الإسلام دين
الكرامة الإنسانية؟!
وأنا أقرأ الآيات التي تذكر الإماء والعبيد والحرائر .. فهل يعقل أن الإسلام الذي يتكلم عن الحرية البشرية والكرامة الإنسانية وتحرير البشر يسمح بأن يكون هناك بشر ملكًا لبشر؟! ويكون هذا عبد فلان وهذه أمة فلان، ويصبحون ميراثا يورث .. كيف؟!
لماذا لم يحرم الإسلام الرق؟ وهل من حق الناس أن يقولوا إن المدنية الحديثة والحضارة الحالية أرشد من الإسلام لأنها حرمت الرق
وجعلته محرمًا أما الإسلام فأباحه؟
من يقول هذا - جزاه الله خيرًا - يغار على الإسلام ولكن لو علمنا روعة عطاء الإسلام وتناوله لقضية الرق سنعرف أن هذا الموضوع من
مفاخر الإسلام في باب الحرية وفي باب الكرامة الإنسانية وفي باب تحرير البشر حتى العبيد.
إن الرق في التاريخ البشري كانت له مصادر كثيرة جدا .. وأنا لا أخص المجتمع العربي في الجاهلية فقط وإنما كل المجتمعات ولنذهب إلى كليات الحقوق ونسأل عما يدرسونه في القانون الروماني أو القانون عند الآشوريين والبابليين والفراعنة وغيرهم. إن الرق في التاريخ البشري كانت له منابع كثيرة .. كانت هناك حروب وكان المنتصر يأخذ المهزوم ويسترقه .. أيضًا لو أن هناك إنسانًا له دين عند إنسان وعجز المدين عن أن يسدد الدين للدائن فيأخذ المدين نفسه بدلاً من المال ... وكان المجتمع يمكن الإنسان من هذا ولا يمكن المدين من الفرار .. فمثلاً إذا خطف شخص من أهله وكان في حيازة شخص آخر فهو ملك له، وله أن يذهب به إلى سوق العبيد ليبيعه ويتم البيع والشراء حتى لو كان هذا الشخص أباه أو أمه، وكان إذا ضاع طفل يجيء أهله ليشتروه ويحرروه من الشخص الذي وجده لأنه قد أصبح عبدا ومملوكًا ومسترقا بمقتضى جريمة الاختطاف، والمجتمع يمكنه من ذلك .. وهذا ما حدث مع زيد بن حارثة" عندما عرف أبوه وأهله مكانه فسافروا بلادًا وصحراوات كثيرة حتى أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم- وقالوه له ندفع لك ونشتري ابننا .. لكن النبي
- صلى الله عليه وسلم كان أكرم وقال لهم: "خذوه لو اختاركم" ... لكن زيدا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم.
إذن منابع الرق كانت كثيرة جدا، وعندما جاء الإسلام حرم كل مصادر الرق ومنابعه .. جفف كل منابع الرق، لأن كل النماذج التي ذكرتها هي حرام في الإسلام .. حرم الإسلام كل مدخل وكل سبب وأبقى سببًا واحدا فقط هو من مفاخر الإسلام .. وهو طريق واحد فقط ليكون الإنسان عبدا، هذا الطريق هو أن يأتي إنسان يحاربني ليعتدي على عرضي كدولة إسلامية أو على مالي أو على عقيدتي، ويحاربني بظلم فأنتصر عليه ويمكنني الله عز وجل منه.
هل تدرون الواقعة الخاصة بـ "مدرسة بحر البقر" في الدقهلية في أنه عندما جاءت طائرة من طائرات اليهود وضربت مصر وهي
أن
مدرسة ابتدائية وقتلت الأطفال وملأت الدماء كل مكان اتضح الطائرة تقودها "امرأة حامل" جندية في الجيش اليهودي حامل
خرجت وضربت المدرسة وعادت جريمة نكراء .. مذبحة .. ونحن نعرف صابرا وشاتيلا ودير ياسين في فلسطين وغير ذلك فإذا ما أمكنني الله عز وجل من الذي فعل هذه الجريمة فإن القانون الدولي ينص في هذه الحالة المعاصرة أن من فعل هذا هو مجرم حرب وتتم
محاكمته وذلك ما فعلوه مع صدام حسين على جرائم حرب وحاكموا زعيم صرب البوسنة على جرائم حرب وهكذا ..
ولكن القرآن الكريم يقول : فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَخَنَتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوثاق ﴾ [محمد: ٤] .. مادام ضرب الرقاب انتهى والحرب انتهت فلا داعي للقتل إذ يكون القتل في المعركة فإذا استقرت المعركة وأصبحت أنت متمكنا فلا داعي لأن تقتله فيموت كافرًا وإنما ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا منا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاهُ ﴾ [محمد: ٤] الوثاق كناية عن الأسر فإذا ما أخذته يومئذ أمامي إما أن أقتله وإما أن أمنحه الحياة .. والإسلام يريدني أن أتركه حيا بدل أن أزهق روحه .. سأعطيه الحياة وهذه أول نعمة بأن أعطي . الأسير حياته بدلاً من قتله، ثم النعمة الثانية أنني بدلاً من أن أجعله
يسجن وأقيد حريته جعلته بين الناس .. بين أهلي وقومي وعشيرتي .. جعلته موجودًا في المجتمع حرّا، ثم النعمة الثالثة أنني بدلاً من أن أبقيه كافرا مشركا ويموت كافرًا ويدخل النار أدخلته في المسلمين لعل
الله أن يهديه حينما ينظر في أحوال المسلمين ...
وتعلمون قصة الأسير الذي أسره النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث جاء هذا الرجل وكان كافرًا ليحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - فربطه في عمود من أعمدة المسجد ليرى المسلمين حتى إذا ما
رأى شأن الإسلام والمسلمين أسلم.
و
إذن الإسلام أعطى الأسير الحياة بدل القتل، وأعطاه الحرية بدل الأسر والسجن، وأعطاه الإسلام بدل الكفر، ثم أعطاه النعمة الرابعة أن الإسلام أغرى المسلمين بإعتاق العبيد .. وبهذا يكون قد سد الإسلام كل المنافذ التي تؤدي إلى الرق وفتح كل المنافذ التي تؤدي إلى الخروج من الرق ..
وهي
فمن جامع امرأته في نهار رمضان فتحرير رقبة .. ومن حلف بالله ثم أراد أن يتحلل من قَسَمه فكفارة الأيمان تحرير رقبة .. كفارات كثيرة في الإسلام تحرير رقبة لدرجة أخرجت العبيد إخراجا شبه كامل من الرق، فكان يجب أن يكون هناك بديل لتحرير الرقبة لأنه لن توجد
رقاب لتحرر لأنها قد حُررت بالفعل، يقول الله تعالى: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ (لأنه ما عاد هناك أرقاء بسبب هذه الكفارات) ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ متتابعين [المجادلة: ٤] إنما قبل إطعام المسلم المسكين وكسوة المسلم
الفقير ذكر الله عتق الرقبة حتى لو كان غير مسلم ..
وبعد أن أعطاهم الإسلام أربع نعم وهي نعمة الحياة بدل القتل ... ونعمة الحرية بدل الأسر .. ونعمة الإسلام بدل الكفر دون إكراه .. ونعمة التحرير بعد ذلك .. أمر الإسلام أن نكرم الرقيق المسترق في فترة الرق والعبودية وهي الفترة .. الطارئة .. وليست هذه فترة استمرار لأن الإسلام لن يجعل هذا الإنسان مستمرًا في الرق وإنما هي فترة
مؤقتة حتى تكتمل له نعمة الإسلام والحياة .. ثم أمرنا الإسلام في هذه الفترة ألا نظلمه بل نكرمه وننفق عليه ونطعمه.
ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – كانت عنده جارية صغيرة أرسلها لتشتري شيئًا فغابت طوال اليوم تلعب فلما رجعت إلى البيت كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - غاضبًا، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "والله يا جارية لولا خوف القصاص من الله عز وجل لضربتك بهذا السواك".
لم يرضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضربها بالسواك لأنه يخاف من رب العالمين.
أيضا كان أبو مسعود البدري وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يضرب عبداً من عبيده فجاء من خلفه صلى الله عليه وسلم وقال: "اعلم أبا مسعود أن قدرة الله عليك أعظم من قدرتك على هذا فالتفت أبو مسعود وهو غاضب وممسك بالولد يضربه وأراد أن يلتفت كأنه يريد أن يقول لمن يكلمه هل تدري ماذا فعل؟ فلما التفت فوجئ بأن المتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزع وألجم وقال: يا رسول الله هو حر لوجه الله، فقال له: أما إنك لو لم
تفعل لمستك النار ..
إذن الله تبارك وتعالى يدعو إلى إكرام هؤلاء الأرقاء .. ثم إن الإسلام لا يمانع إن جاء قانون حرم الرق أو جاء المسلمون فحرموا
الاسترقاق فلا بأس، يقول الله تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد : ٤] ..
لذا فإن الإسلام لا يجعل الاسترقاق فريضة .. وإنما جعله مصلحة ونعمة، لكن أصحاب الحضارة الحديثة كالأمريكيين والأوروبيين يسافرون إلى أفريقيا ويشحنون سفناً وبواخر مليئة بالعبيد السود إذ يسلسلونهم ويجعلونهم ينامون على أرض المركب ويضعون عليهم أثقالاً حتى لا يهربوا ويشحنونهم بالمئات والآلاف حتى يعملوا في أمريكا عبيدا عند السادة الأوربيين، وظلت أمريكا حتى الستينيات من هذا القرن والسبيعنيات بل إلى عهد قريب جدا مكتوب على المطاعم في بعض الولايات وهذا ما قرأته ووجدته بعيني ممنوع دخول الكلاب والسود ..
لقد ساووا بين العبد الأسود والكلب وحتى يومنا هذا ونحن في القرن الحادي والعشرين .. إذا اشترى شخص أسود قطعة أرض أو بيتا - وإن كان حرًا - تنخفض أثمان الأرض؛ لأنه يعتبر شيئًا غير مرغوب فيه، لذا أحيانًا يتكاتف السكان ليشتروا البيت من هذا
الأسود ليخرجوه لتظل المنطقة للبيض وحدهم.
وعندما ذهبت إلى سفارات بعض البلاد الأوربية والأمريكية لآخذ استمارة (للتأشيرة والفيزا) وجدت من ضمن البيانات لون البشرة ..
وهذا الكلام في القرن الحادي والعشرين.
إذن العبيد الذين عاشوا في فترة عبودية قليلة .. ثم اعتقوا بقدر الله عز وجل هؤلاء أحبوا الإسلام لدرجة أن الموالي هؤلاء أصبح منهم كبار الفقهاء في الشريعة الإسلامية وكبار قواد الجيش والفاتحين. وعلى سبيل المثال عمار بن ياسر " إذ كان عبدا عند بني مخزوم وهم عائلة خالد بن الوليد، فلما أسلم خالد بن الوليد" وكان عمار قد أسلم قبله، وبعد مرور عشرين سنة على بدء الدعوة الإسلامية اختلف خالد وعمار .. فخالد شعر أن عمارًا كان خادمه وخادم أبيه وعائلته فغلظ عليه بشدة فبكى عمار ولم يستطع أن يتكلم إلى خالد؛ لأنه كان السيد طوال العمر .. واشتكى لرسول الله.
فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد: "يا خالد إن عمارا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ومن آذى عمارا فقد آذى الله
ورسوله".
ويفزع خالد .. ويذهب السيد ليقبل رأس عمار، ويقول له: سامحني يا أخي .. سامحني لأنني إن آذيتك آذيت الله ورسوله ..
وفي واقعة أخرى يأتي أبو بكر الصديق السيد ومعه أبو سفيان قائد جيش المشركين والذى حارب الرسول صلى الله عليه وسلم طوال فترة الحرب بين قريش وبين الرسول صلى الله عليه وسلم .. وأبو بكر السيد أتى بأبي سفيان السيد وكان أبو بكر طامعا في إسلامه لأنه لو أسلم قائد جيش ودخل في الإسلام فهذا عزة للإسلام .. فسار به أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطريق كان هناك ثلاثة من العبيد جالسين فقال أحدهم يا سبحان الله أمازال يعيش والله إن السيوف لم تشبع من الرقاب، ألا إن سيوف الله لم تشبع بعد من رقاب بعض عباد الله ، كلمة غليظة يسمعها أبو سفيان، فاحمر وجه أبي بكر وغضب؛ لأن المصلحة التي ستكون بسبب إسلام أبي سفيان توشك أن تطيش بسبب كلمة مثل هذه ...
وذهب أبو بكر للرسول وقال له انظر يا رسول الله ما قاله فلان وفلان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر فلعلك آذيتهم" إياك أن تكون قلت لهم كلمة تؤذي مشاعرهم لأن رب العالمين عاتب رسول الله في عبد اسمه عبد الله بن أم مكتوم ففيه نزل: عبس وَتَوَلَّى ) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَفَعَهُ الذكرى ﴾ [عبس] ، فقال : لا والله يا رسول الله ما آذيتهم فقال: " إنك لو آذيتهم لآذيت الله ورسوله".
إن الإسلام يدافع عن هؤلاء دفاعًا شديدا والرسول يقول: "بلال
منا آل البيت" .. بلال المسترق من بيت النبوة.
إذن الإسلام أكرمهم وما جعل الرق إلا منحًا لعمر ومنحا للمال ومنحا لحياة ومنحا لإسلام ثم إعتاقا ثم بركة ثم إنفاقا .. ثم كانت النتيجة التي أخضعت الرقاب وجعلت هؤلاء جميعا قد أحبوا الإسلام وتكاتفوا معه ولم يكونوا ضده.
ألا فلترفع رؤوسنا نحن جند الإسلام نحن أتباع العقيدة المشرفة
الرائعة .. إنها رحمة الله للعالمين ..
الهدف من الخلق:
جاءني شاب يسأل، وكان قد وقع فريسة لبعض المذاهب الاقتصادية والاجتماعية كالماركسية والشيوعية وغيرهما، فجاء يسألني سؤالاً يظن أنه سؤال عميق، وأنه لا رد عليه، ولكن هذا السؤال
حقيقة يتناول نظام الإسلام كلية، سألني قائلاً:
إن القرآن الكريم يقول إن الله هو الغني، وإنه لا يريد من عباده الرزق له، يقول الله تعالى: ﴿ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مَن رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ) [الذاريات] .. وإن كل من في ) السماوات والأرض إنما هو عطاء من الله رب العالمين.
وآيات القرآن تمتلئ بما يعرفك بأن الله هو الغني، وأن العباد هم
الفقراء يَنَايُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ال
[فاطر] ، ثم يقول: ومع ذلك وبرغم هذا الوضوح والاستقرار في آيات القرآن إلا أن القرآن أيضًا كلف المسلمين بأن يطعموا الفقراء، ويعطوهم وينفقوا عليهم، فإذا كان الله غنيا حميدا – وهو كذلك - فلماذا لم يقل إنه حرم على الأغنياء أن ينفقوا على الفقراء؛ لأن الله ينفق عليهم، وهنا تنشأ هذه الإشكالية إشكالية بين قول الله تعالى: ﴿مَا
أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِزْقٍ ﴾ [الذاريات: ٥٧] ، وبين وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾ [النساء:٥] ، آية تقول: أريد منكم أرزاقاً تجرونها، وآية تقول: ارزقوهم
فيها واكسوهم، وأطعموا البائس الفقير ..
إن القرآن بهذه الصورة ونحن نوقن أنه كتاب لا يتضارب، ولكن
ظاهر الآيات - ولأننا لا نفهمها - نشعر أن هناك تضاربًا.
الحقيقة أن هذا السؤال يدل على عدم العلم الكافي بالهدف من خلق
البشر.
ما هو الهدف من خلق البشر ؟
يقول الله تبارك وتعالى عن المهمة التي خلق البشر من أجلها: إنّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ ﴾ [البقرة: ٣٠] ، ويقول: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات] ولكن العبادة أنواع، الملائكة يعبدون بطريقة، والجن يعبدون بطريقة والبشر يعبدون بطريقة فطريقة البشر عبارة عن أصناف من العبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ، من أعظم هذه الأصناف ومن أميزها ومن أخصها بالإنسان ومن ألصقها به والتي من أجلها خُلق الإنسان أن يكون خليفة عن الله في الأرض، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَتَبِكَةِ إِنِّي جَاعِلُ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةٌ ﴾ [البقرة: ٣٠].
إن البشر خُلقوا ليكونوا خلفاء عن الله - عز وجل – في الأرض، أو خلفاء على ما رزقهم الله فإذا علمت أن منطق إنفاق الأموال في الحقيقة ملازم للخلافة، ملازم للاستخلاف، قال الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: ] إذا علمت ذلك أصبح هناك تلازم بين الاستخلاف وبين الإنفاق الإنفاق صورة من صور عبادة الاستخلاف في الأرض، فلو أنك طلبت من الله - عز وجل - أن ينزعها عن البشر فكأنها تقول له خلقتني خليفة، ولكن لا تكلفني بما هو مقتضى أنني خليفة في الأرض، والله تبارك وتعالى يقول: وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى مَاتَنَكُمْ ﴾ [النور: ۳۳] فالمال مال الله، ونحن
مستخلفون فيه.
ولذلك ننفق بالوحي والشرع الذي شرعه الله عز وجل، والحقيقة هذه المسألة ليست خاصة بإنفاق الأموال فقط، وإنما هي خاصة بكل شيء، حتى أنها خاصة بالقوة أيضًا، فالله تعالى جعل لكل نعمة أنعمها على الإنسان جعل لها ضريبة أو جعل عليها ضريبة، فالإنسان القوي مثلاً مكلف بالجهاد في سبيل الله، والإنسان الذي لديه جاه وسلطان ووجاهة مكلف بأن يعد بجاهه على من لا جاه له، فيشفع شفاعة حسنة، أو يخدم إنسانًا، أو يقيم الحق .. ينفق من هذا الجاه، ومن كان له فضل مال فلينفق على من لا مال له أو فليعد به على من لا مال له،
حتى من كانت عنده ،ركوبة، وهي الآن السيارة، وبالأمس كانت حمارًا
أو بغلاً أو جملاً ، من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له. إذن العبادة التي خُلق لها البشر . مختصة ولا يقوم بها ملك بهم، أنه مقرب، ولا يقوم بها شيطان ولا جني، ولا يقوم بها إلا البشر وهي ا خليفة الله على الأرض، وهذا الإنفاق صورة من صور الاستخلاف. ولذلك فإن من يقرأ آيات القرآن يجد أن الله تعالى جعل بعض
الناس لبعضهم عبادة، يقول الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فتنة ﴾ [الفرقان: ٢٠] .. فتنة أي اختبار وابتلاء وامتحان، أتصبرون؟ فجعل للغني حظا مع الفقير، وجعل للفقير حظاً . مع الغني، وأصبح الإنسان بهذه الصورة مكلفا لا أن يعيش مصليا وصائما وقائما وذاكرا الله وداعيًا، وما إلى ذلك من الدعاء الله وسؤاله، وإنما هو مكلف أن يعبد الله في البشر ، وفي الحديث القدسي: "مرضت فلم تعدني، كيف
لمرض وأنت رب العالمين يا رب .. قال: مرض عبدي فلم تعده .. "
(رواه مسلم).
فأصبحت عبادات البشر تمر عبر البشر الآخرين، وهذا هو معنى
الاستخلاف.
لقد كان الله تعالى قديرًا - سبحانه وتعالى - أن يقول للبشر لا تنفقوا لكن هو خلقهم من أجل هذا الاستخلاف.
ولذلك فإن الذين رفضوا أن يعبدوا الله، والذين رفضوا أن يطيعوا الله، والذين رفضوا أن يؤمنوا بالله رفضوا الإنفاق، يقول الله عنهم:
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُوا )
[المنافقون: ٧] حتى يتركوا الدين وينصرفوا عنه ...
انظر إلى عظمة الإسلام الذين رفضوا الإسلام قرروا أن يحاصروا الإنفاق وأن يحاصروا منهج الله في الإنفاق؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - استخلفهم على هذه الأموال، فأرادوا أن يحجزوها.
ولذلك فإن الله - سبحانه - لم يجعل البشر وهم ينفقون بهذه الصورة أحرارًا في أن ينفقوا ، وإنما وضع مواصفات لهذا الإنفاق، إذ لا
يستطيع الإنسان أن يقتر، ويقول: لا، أنا لن أنفق كما لا يستطيع
أن
يسرف، يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وكان بين ذَلِكَ قَوَامًا الله [الفرقان] .. هذا القوام بين الإنفاق والتقتير هو في حقيقة الأمر طريق الله المستقيم وصراط الله المستقيم .. كما ذكر القرآن الكريم أنه قد يصير الغني فقيرا، وقد يصير الفقير غنيا بسبب الإنفاق أو عدم الإنفاق، ونجد في آيات سورة القلم نبأ أصحاب الجنة، وهم مجموعة من الأشقاء يملكون حقولاً، فأعجبهم الزرع وضايقهم التصاق الفقراء ووقوفهم على رؤوس الحقل يوم أن الله تعالى جعل من عظمة الزكاة أنها لا ترتبط بزمن مع
الحصاد،
بعد حول، وإنما ترتبط بزمن الحصاد، وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ که
[الأنعام:١٤١].
ولكن هؤلاء الأشقاء قرروا وقالوا: إن الفقراء اليوم سينامون مبكرا حتى يستيقظوا مبكرًا ليدركوا موسم الحصاد، لذا لابد أن نستيقظ قبلهم ونحصد فإذا استيقظ الفقراء يجدون الدواب قد حملت المحصول، وانتهى الأمر ..
يقول الله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَابِفٌ مِن رَّبِّكَ ﴾ [القلم: ١٩] طاف على الحقل فَطَافَ عَلَيْهَا طَابِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَايَمُونَ فاحترقت بالكامل، وانتهت فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم ﴾ [القلم] ، وفي الصباح تنادوا فوجدوا أنه
لا شيء عندهم، لقد حولهم الله لفقراء لأنهم لم ينفقوا على الفقراء.
كذلك في سورة الكهف نجد حوارًا بين رجل غني ورجل فقير رجل غني غنى شديدا، ورجل فقير فقرًا شديدا، فالغني يُعير الفقير يقول له: لولا اللقمة التي أطعمك إياها ما طعمت، وهذا ما يقوله بعض الأشخاص اليوم بصيغة أنت .. لحم كتفيك من خيري). لكن الفقير كان يفهم حركة الأرزاق وفقه الله - سبحانه وتعالى - في الأرزاق، فقال له: ﴿ فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِينِ خَيْرًا مِّن جَنَّيْكَ [الكهف:٤٠] فيرتفع الفقير إلى الغنى وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ
السَّمَاءِ يُرسل على الحديقة شهاب من السماء فيحرقها، فيصبح الغني فقيررًا، إذن تبدل الميزان وتغير، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ [الفرقان: ٢٠] ..
ولذلك لم يكلف الله تعالى الغني بأن ينفق على الفقير من عند الغني، وإنما كلف الغني أن ينفق على الفقير من مال الله الذي آتاه كحركة مال تخدم وتكرس وتؤكد عبادة الاستخلاف؛ لأنني لو لم أكن موزعا للأموال، وهذا آخذ للأموال، وهذا متلق .. لفسدت عبادة الاستخلاف وما أصبح الناس بعضهم مكلفا ببعض ..
يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَط اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ ﴾ [الشورى: ۲۷] ، لو أعطاهم كثيرًا لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ .. ولكن هو يُنزِلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ أنت تفعل ذلك مع ابنك أحيانًا تريد أن تعطيه عينيك كما يقولون، ولكنك تقول: أنا لن أعطيه كثيرًا؛ لأنني لو أعطيته كثيرا ربما اشترى مخدرات بدلاً من الحلوى أو ربما اشترى خمرا بدل العصير، فأنت تعطيه بالقدر الذي ترى أنه يصلحه ولا يفسده، إلا من أفسد، فالآباء
المفسدون كثيرون.
خلاصة الأمر أن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ [الزخرف: ٣٣]
حتى لا يصبحوا جميعًا كافرين (لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سقفًا مِّن فِضَّةٍ ) الجعلنا لهم بيت ذهب وفضة وسلالم ومصاعد، وكنا أعطينا وأغدقنا، ولكن الناس لو أخذوا أموالاً بغير حساب لبغوا في الأرض، لأنه يوجد عباد لا يصلحهم إلا درجة محددة من درجات العطاء فالله يعطيها لهم، ويأخذ على قدر ما يصلحهم ...
وأعلم أنه إذا مات العبد المنفق لن يموت الفقير الذي كان ينفق عليه الغني، وتدلنا آيات القرآن على أمر عجيب أنه عندما يعجز الغني أو يموت تجد أن الله يرسل للفقير من يصلح شأنه، وذلك في سورة الكهف إذ كان هناك أب ظل طوال حياته يجمع الكنز وينمي الثروة، ثم جاءه الموت وكان له ولدان صغيران، والبلد الذي كان يسكنه كان بلدا سيئًا جدا، وأهلها سيئون ولئام، لدرجة أنهم لا يطعمون الضيف اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيفُوهُمَا ﴾ [الكهف: ٧٧] فلما وجد الأب أنه سيموت وأن أهل القرية لثام، ومعنى ذلك أن الثروة سوف تضيع فجمعها ودفنها في الأرض وبنى فوقها بناء، وقال لنفسه والله هذا البناء سيظل عشر سنين - لأنه بناه بطريقة معينة - وعندما يكبر ولداي ويريدان أن يتزوجا سيوسعان الدار ويهدمان الجدار ويجدان الكنز، لكن الله أراد أن يقول إن حركة
الأموال ليست إلى الأب المنفق، وليست إلى اللثام المتربصين، فأرسل الله زلزالاً، فإذا بالجدار الذي مدته الزمنية ۱۰ أو ۲۰ سنة؛ لأنه مبني | بطوب منفصل عن بعضه أو شيء من هذا القبيل، إذا بهذا الجدار يحدث به شرخ بأثر الزلزال، وهذا ما يقول عنه التعبير الحديث (آيل للسقوط، وآيل للسقوط بمعنى أنه يريد أن ينقض يقول الله تعالى فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ ﴾ [الكهف: ٧٧] ، لو انقض الجدار سينكشف الكنز وتضيع الأموال، وتفسد خطة الرجل، فإذا بالله يرسل نبيا رسولاً من أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله موسى - عليه الصلاة والسلام - أفضل خلق الله جميعا بعد محمد، وإبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - يرسله ومعه عبد لا مثيل له في البشر وهو (الخضر)، يقول الله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَانَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَهُ مِن لَّدُنَا عِلْمًا ﴾ [الكهف] ، وهو الذي ورد نبؤه في
سورة الكهف يرسل هذا النبي الكليم الرسول، وهذا العبد المتفرد ليعبرا البحر، ويذهبا إلى هناك ليبنيا للولدين الصغيرين اللذين مازالا
غافلين عن الأمر يبنيان لهما الجدار حفاظا على الأموال.
فالله - سبحانه وتعالى - حينما رزق الأبناء بالأموال عن طريق الأب، لم تكن أموال الأب، ولكنها أموال الأبناء آتاها الله للأب، فلما
مات الأب وعجز والأبناء ،عاجزون، وأوشك المال أن يضيع، لذا أرسل الله من يحفظه لهم لتعلم أنه استخلاف لموسى واستخلاف للخضر، واستخلاف لأب الولدين ولما عجز الجميع جعل الله تعالى عبدا كهذا العبد الصالح وهو (الخضر) الذي أرسل إليه علما من الغيب ومن المستقبل حتى يحفظ لهما هذه الأموال ...
انظر إلى الفرض العكسي في سورة البقرة، رجل كان بالعكس، يقول الله تعالى: ﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضعفاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة ] ، حديقة كبيرة وعظيمة تخرج
من الخيرات أنواعاً مختلفة، والأب ظل يعمل إلى أن أدركه الكبر والعجز، ولكن أولاده مازالوا صغارًا، فهو عجز ولا يستطيع أن يعمل، وأولاده صغار لا يستطيعون أيضًا العمل، فأرسل الله تعالى على هذه الحديقة ما جعلها تهلك بالكامل، فأصبح الأب عاجزا
والأولاد عاجزين وضاعت الحديقة.
سبحان الله ! فالمال ليس مال الأب ولا مال الأولاد، وإنما هو مال
الله الذي يصرفه في البشر كيفما يشاء ...
لقد جعل الله تعالى تفاوت الأرزاق لأجل عبادة الاستخلاف وهذا التفاوت ليس في المال فقط، وإنما أيضًا في الصحة والعقل والأولاد وأحيانا يكون التفاوت في المهارة والذكاء فيكون شخص عبقري وآخر أخرق لا يقدر على شيء وهو عبء على مولاه، وهو كل
على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير .. لا ينفع في أي شيء.
إذن هناك صحة ومرض قوة وضعف مهارة وبلادة ذكاء وغباء،
عمر مديد وعمر قصير مال وفير ومال قليل ...
الحقيقة أننا نغار على ديننا غيرة بالغة، ومن الظلم أن ينزل الله كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا من أمامه ولا من ورائه ولا من المستقبل ولا من الماضي، لا يأتيه الباطل تماما، ثم بسبب قصور فهم المسلم لهذا القرآن نجد الأباطيل مستقرة بشأن هذا القرآن .. إن هذا ظلم لكتاب الله العزيز، لأنه قوي لا يأتيه الباطل أبدا.
لهذا علينا أن نفهم آيات القرآن ليظل القرآن عزيزا مهيبا في
الناس ..
فهم القرآن
أحمد الله - عز وجل - الذي جعلنا نفتح معا أبواب الفهم لآيات القرآن، وأبواب الاتعاظ بما نزل فيه من موعظة للمتقين، وكم أتمنى - والله - أن ندرس كل القرآن الكريم بهذه الصورة التي نفهم بها ما وراء الآيات من مرام، ومن مقاصد، ومن مفاهيم، ومن أعماق حتى يصير الإنسان عالما بالقرآن ...
إن الله تعالى قصر الانتفاع بهذه الآيات على صاحب البصيرة والعلم والعقل، يقول الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَلِمُونَ ) [العنكبوت] ، العالمون فقط هم من يعقلونها، لذلك نحن حين نطرح آيات القرآن لتعلمها ولندرسها إنما نحاول أن تُرزق الفهم، وذلك حتى يتحقق فينا قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَلِمُونَ .. .. بل إن الله تعالى في سورة النحل يقول عن
آياته إنها هدى وبشرى للمسلمين.
إن المسلم يبشر بالقرآن وذلك بأن يفهم ويعقل، ونحن نحمد الله
سبحانه كثيرًا على هذا الفضل ...
أذكر أنني في ليلة لا أنساها إذ كانت ليلة شاتية ممطرة وكان البرد شديدا، جاءتني في المسجد سيدة وكنت داخلاً لإلقاء محاضرة ولم أبدأ بعد، تلك السيدة ربما تكون في الخمسين من عمرها أو شيء من هذا القبيل، جاءت ويكسوها الوقار والجلال، جاءت تقول:
أريد أن أقرأ القرآن وقلبي مرتاح أريد أن أتلو القرآن وأنا مطمئنة .. إنني عندما أقرأ القرآن أجد كلاما أشعر أحيانًا أنني لا أفهمه فهما دقيقا، إن الله تبارك وتعالى ملأ آيات القرآن بقوله وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ﴾ [الأنعام: ٣٤] ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى وَمَا أَنَا بِظَلَمٍ لِلْعَبِيدِ )
[ق] لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ ﴾ [يونس : ٦٣]
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٦٢] ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تبديلا [الفتح: ٢٣] ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ﴾ [التوبة: ١١١] ..
كلها مسائل مستقرة ..
ثم قالت: ثم أفاجأ ببعض الآيات التي أشعر أنني لا أفهمها، وقرأت بعض التفاسير لكنني لا أستطيع أن أفهمها .. فالآية فيها شرح، لكنني لا أربط بين هذا وذاك، ومن هذه الآيات قوله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
[النحل: ١٠١] وهنا يراودني سؤال: أين قوله لا مبدل لكلمات الله؟
وأيضًا قوله تعالى: ﴿ مَا نَنسَخ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة:١٠٦] ؟ وسؤالي هو : هل يوجد تبديل لكلمات الله ؟ !
أعلم أن أساتذتنا الأجلاء الذين يعرفون حقائق الآيات الآن يضحكون ويبتسمون من هذا السؤال .. لكنني عندما دخلت إلى المسجد وطرحت هذا السؤال على جمهور الحاضرين وفيهم الشباب والكبار، في الحقيقة لم يستطع أحد أن يعرف الجواب، فقلت سبحان
الله !
إذن ربما حدث عند بعض الناس لبس فعلاً، إن الله تبارك وتعالى
يقول: لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَتِ اللهِ ﴾ [يونس : ٦٣]
وهناك يقول: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةًة مكان عاية كرفان [النحل: ١٠١] هنا يقول: ﴿ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِ اللهِ ﴾ [الأنعام: ٣٤] وهناك
يقول: مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا .
إن الناس تصوروا أن كلمات الله كلها نوع واحد فقط، بينما كلمات الله ليست نوعا واحدًا وإنما كلمات الله أصناف، فالقرآن كلام الله وهو النوع الأول، والنوع الثاني عبارة عن الأوامر التي يقولها الله للشيء كن فيكون، فالله - سبحانه وتعالى - :يقول كن بشرًا .. ويقول فلانة ستلد ذكرًا، فلانة ستلد أنثى، وهذا يموت، وهناك كلام من نوع ثالث وهو
علم الله الواسع، يقول الله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا نَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي
ظلُمَتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَبٍ مُّبِينٍ ﴾ [الأنعام ]. إذن علم الله واسع فالكلام في علم الله غير الكلام الذي في القرآن الكريم فقط، غير الكلام الذي يتعلق بالأوامر التكوينية بأن يقول له:
كن فيكون، غير الكلام عن صفات الله - سبحانه وتعالى – وهكذا .. إذن كلام الله أصناف غير الكلام الذي هو وعد الله للبشر، بأن الله وعدكم كذا .. والدليل على أن كلام الله أو كلمات الله لها معان متعددة قول الله تعالى، وتذوقوا جمال الآية، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقَلَمُ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ، سَبْعَةُ أَبْحْرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [القمان ] ...
والآية بمعنى أنه لو جعل الله الشجر أقلاما، والبحر حبرا لن تنفد كلمات الله ..
وكلام الله المقصود في الآية غير كلام الله الذي جاء في القرآن، هذا كلام عن علم الله وصفات الله وما يدركه الله فوق إدراك البشر، إنه علم مستفيض لا يكفي لكتابته حبر بقدر مداد الأرض ولو جئنا بمثله مددا، يقول الله تعالى: ﴿قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن
تنفد كامتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ، مَدَدًا ﴾ [الكهف] ، ولو ضاعفنا بحور كَلِمَتُ ، ()
الدنيا إلى الضعف، لكن كلام المصحف يكتب ولا يحتاج لهذا كله .. إذن هناك فارق بين الكلام الذي هو كلام التكوين كن فيكون) والكلام الذي هو علم الله والكلام الذي هو وعد الله، والكلام الذي يقصد به القرآن الكريم.
إن كل صنف أو نوع من هذه الأصناف من كلام الله - عز وجل - له سنة مختلفة وله مقاييس وقواعد مختلفة، فمثلاً قوله ولا تَبْدِيلَ لكَلِمَتِ اللَّهِ ﴾ [يونس: ٦٣]
يأتي مع القواعد والأمور المستقرة، وعود الله للبشر ..
على سبيل المثال حينما يقول الله تعالى عن المؤمنين أو عن الصالحين من أوليائه: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [يونس] ، لهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة .. هذه قاعدة مستقرة. ويقول الله تعالى: ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى وَمَا أَنَا بِظَلَم لِلْعَبِيدِ ) [ق] الوعد مستقر، أنا أضرب لكم المثل أولاً بالأمور المستقرة لتعلموا
الفارق بين السنن التي تظل مستقرة حتى تستقيم حياة البشر.
الإنسان المسلم يعيش ٥٠ أو ٦٠ أو ٧٠ سنة ويعتقد أنه سيدخل الجنة، والكافر سيدخل النار، ثم يتغير هذا بعد ذلك، لا .. فهذه مقاييس مستقرة ليتصرف الناس في ضوء هذه المقاييس المستقرة .. يقول الله تعالى: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَى إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: ٤٣] ، هذه سنة مستقرة، ثم يقول الله تعالى بعدها: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ﴾ [فاطر: ٤٣].
كما يقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم – وهو يرى تكذيب الناس إذ كانون يقولون عنه إنه كذاب، وهو المعروف والمشهور بالصادق الأمين طوال ٤٠ سنة ولم يُذكر عنه أنه كذاب قط، فكبر عليه إعراضهم والله تعالى قال: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ ﴾ [الأنعام: ٣٥] ، فلما جاء في هذا السياق قال: ﴿وَلَقَدْ كُذِبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كَذِبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَلَهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: ٣٤] ثم بعد التكذيب
يأتي النصر وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: ٣٤].
إن المواضع التي جاء فيها قول الله تعالى لا تبديل لكلمات الله، ولا مبدل لكلمات الله ولن تجد لسنت الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولا يبدل القول لدي هذه عن قواعد العيش قواعد الدنيا والآخرة، قواعد النصر والهزيمة، قواعد أن العاقبة للمتقين، قواعد أن
المكر السيئ يحيق بأهله من الذين مكروا السيئات ...
أما عندما أنتقل لنوع ثان من نوع الكلام وهو الذي أتى في كلام الله وفي المصحف وهو كلام خاص بالبشر ، وبإصلاح البشر فيإصلاح البشر يتطورون .. فالطفل الصغير مثلاً عندما يحاول وضع شيء في مقبس الكهرباء فتمنعه وتزجره وربما تسده بشيء، ولكن عندما يصل لسن العاشرة مثلاً قد تطلب منه أن يضع القابس هو بنفسه، فأنت الذي منعته بالأمس ثم تطالبه اليوم بما منعته؛ لأنه قد تطور.
إذن المرحلة العمرية والقدرات لهما اعتبار
وحينما يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: ١٠١] هذا الكلام معناه أن الله – عز وجل
- يخاطب البشر بقدر طاقتهم، مثلاً في البداية إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صبِرُونَ يَغْلِبُوا مِاتَنَينِ ﴾ [الأنفال: ٦٥] معناها أن المسلم في بداية الدعوة من الصحابة الأولين لقوتهم ولوجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فحتى إذا بلغ عدوهم تسعة أضعاف لا يجوز لهم أن يرجعوا، لا يمكن .. وإنما نحاربهم ولو بلغوا عشرة أضعاف، لكن أكثر من عشرة أصبح الحكم مختلفا، ، ثم يقول تعالى: ﴿ الْتَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أن فيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِاثَنَيْنِ وَإِن يَكُن منكُمْ أَلْفُ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ ﴾ [الأنفال:٦٦] فلم يصبح الواحد
مقابل عشرة؛ لأنه قد علم أن فيكم ضعفا، لأن الأمم التي ستأتي بعدكم لن تكون مثل هذه الأمة، فإن يكن منكم مائة يغلبون مائتين ألف يغلبون ألفين، حتى ۱۲ ألفًا .. هنا مقاييس العدد توقفت حيث إنه لن يغلب اثنى عشر ألفا من أمتي من قلة.
كذلك في أمور أخرى مثل الربا والخمر التي أخذت تتدرج، فإذا قال تعالى: ﴿ مَا نَنسَخ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) [البقرة: ١٠٦] يعني يأتي الحكم الجديد مراعيًا للظروف والمقتضيات التي أصبحتم عليها فتصير خيرًا لكم في واقعكم الذي تجدد الآن من الآية التي كانت قبل وجود هذا الواقع ..
مثلاً في مسألة تحريم الخمر قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الصَّلوةَ وَأَنتُمْ شكرى ﴾ [النساء : ٤٣] فبدءوا يشعرون أن الخمر أجنبية على الصلاة، أجنبية على روح الصلاة ، يَسْتَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرُ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة : ٢١٩] قالوا: إذن ما نكسبه سنخسر أكثر منه بالخمر، ولكنها لم تُحرم، إلى أن وصل إلى قوله: ﴿ فَاجْتَنِبُوهُ » وليس فقط فلا تشربوه، وإنما لا تذهبوا إلى ما فيه خمر، سواء تشربه أو لا تشربه كأن تجلس مع من يشربه أو
تلمسه أو تحمله، هذا كله ممنوع، فاجتنبوه أشد من منع الشرب.
كذلك في مسألة تحريم الربا قال الله تعالى: ﴿ لَا تَأْكُلُوا الرّبوا أضعفًا مُضَعَفَةٌ ﴾ [آل عمران: ۱۳۰] يقول قائل: إذن لن آخذ أضعافا مضاعفة وإنما سآخذ فائدة بسيطة %٤٪ في القانون المدني و ٦% في القانون التجاري، وهذه القوانين مع الأسف يحكم بها القضاة، والنبي صلى الله عليه وسلم - يقول: "لعن الله الربا، آكله ومؤكله وشاهديه" (رواه مسلم) وقال: "هم سواء" ...
فإذا ما وصل الأمر إلى هذه الصورة يقول الله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ الله الربوا ويربي الصَّدَقَتِ ﴾ [البقرة: ٢٧٦] .. ويقول: اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ۲۷۸] ، وإذا كنتم لا تريدون أن تتركوا الربا فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأَذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة:٢٧٩] .. إذن
المسألة صارت خطيرة. وهكذا توجد بعض الآيات التي تناسب البدايات، مثل قيام الليل ظل قيام الليل - كما ورد عن الصحابة - فرضًا على الصحابة السابقين الأولين من المسلمين في مكة لمدة سنة .. قيام الليل فريضة، يقول الله تعالى: يَأَيُّهَا الْمُزَمَلُ وِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل ] .. ظل قيام الليل سنة كاملة فريضة .. فلما اشتد عود الأمة ولو بوجود الصف الأول حتى ولو كانوا قلة وأصبحوا يعرفون الله ويتوجهون إلى الله ويعبدونه فقويت
نزعة التوجه إلى الله في قلوبهم، جاءت الآية الأخيرة في نفس السورة تقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن تُلْني الَّيلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَوَاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَقْرَهُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ وَمَاتُوا الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا نُقَدِمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل ] .. )
فعلم الله أنه سيكون منكم مرضى وآخرون يجاهدون فلن يستطيعوا أن يجاهدوا في سبيل الله والمريض لن يستطيع، لذلك وضع
الله عنهم قيام الليل ... إن هذه الآيات بعضها كان قويًا ثم خُفف، وبعضها كان خفيفًا ثم اشتد، تحريم الخمر بدأ خفيفًا في التعامل معه ثم اشتدت الحرمة حتى قطعت العلاقة بين المسلم ،والخمر والربا وهكذا، وإنما في قيام الليل كان الحكم الأصلي شديدًا، قيام طويل، ثم خُفف، وفي الجهاد في سبيل الله كان شديدا ثم خفف، إذن المعيار في نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) [البقرة: ١٠٦] وفي ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا ءَايَةً مَكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ يما يترك ﴾ [النحل: ۱۰۱] أنه سبحانه يقول: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ الطيف الخبيرُ ﴾ [الملك] ، وهذا الكلام يتعلق بالأحكام الشرعية ) المتصلة بالبشر.
إن الله - سبحانه - تعامل مع بني إسرائيل بهذه الصورة، قال تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النساء] أي بسبب ظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم طيبات كانت حلالاً عندهم حرمناها عليهم، فلما أحدث التغيير أثره في تأديبهم وفي تربيتهم وفي ردعهم، أو
على الأقل في افتضاح انحرافهم ، وأنهم لم يرتدعوا أرسل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن مهامه أن يحل الطيبات مرة أخرى، وأن يحرم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال والقيود التي كانت عليهم، فهل كان الحل الأول خطأ؟ لا .. هل كان التحريم الطارئ
خطأ؟ لا ..
هل كانت عودة الحل مرة ثالثة خطأ؟ لا .. إنما هذا ما كان مناسبا ... فكان كل شيء يناسب مرحلته.
وأخيرًا فإنه لا يحق لنا أن نسأل لماذا نُسخت بعض الآيات لأن هذا ليس شأننا، إنه كلام الله عز وجل - ينزله كيف يشاء .. وإن كان بعض النسخ معناه تبديل الأحكام، لذلك قال: ﴿ مَا نَنسَحْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا » في قراءة .. أي نؤخرها، فأصبح هذا الحكم متعلقا بهذا العصر ثم الحكم متعلقا بالعصر الذي بعده.
مكانة المرأة وحقوقها
إن الحديث عن المرأة موضوع شائك جدا بقدر ما يظهر لأول وهلة، ولكن بعد أن ندرسه نشعر بأن هذه الصعوبة إنما هي من صنع
أعدائنا وخصومنا والمتربصين بنا.
وأنا لا أقصد مطلقا أن أتناول في الحديث عن المرأة هذه الشبهات ولا الرد عليها، ولا أقصد مطلقا أن أرد على خصوم، وإنما حديثي للمسلم الذي يقرأ القرآن ويسعى إلى أن يفهم الإسلام كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد يقول قائل : أنا أدرك وأعلم جيدا أن الإسلام يساوي بين الرجل والمرأة، ولكن في الحقيقة هذا كلام مرسل، وعند التطبيق يُفضل الرجل على المرأة هذا (قوله ويبرر كلامه قائلاً: مثلاً في القرآن نجد قول الله تبارك وتعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ) [النحل: ٩٧] إذن هما متساويان كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم: "النساء شقائق الرجال " رواه أبو داود، فهم مشتركون معهم في
أصل الحقوق والواجبات.
وأكثر من هذا الآية التي ذكرت في سورة الأحزاب حيث تذكر الأصناف كلها بلفظ الرجل والمرأة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَنِنِينَ وَالْقَيْنَاتِ وَالصَّدِقِينَ والصَّدِقَاتِ وَالصَّبِرِينَ وَالصَّبِرَاتِ وَالْخَشِعِينَ وَالْخَشِعَتِ والْمُتَصَدِقِينَ وَالْمُتَصَدِقَاتِ وَالصَّبِمِينَ وَالصَّبِمَتِ وَالْحَفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَفِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: ٣٥].
فالله تبارك وتعالى لم يفرّق بين هذا وذاك، من عمل صالحا منكم من ذكر أو أنثى، وهكذا ..
إذن ليس هناك تفريق في الإسلام بين الرجل والمرأة، وكلاهما عند الله - عز وجل - سواء لا تفريق بينهما إلا بالطاعة.
أما إذا نظرنا إلى الأحكام الشرعية في الميراث مثلاً نجد أن المرأة
تأخذ نصف الرجل وأحيانًا أقل .. لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ [النساء:١١] ، وتأخذ نصف الدية وشهادتها نصف شهادته فَرَجُلٌ وامراتان ﴾ [البقرة: ۲۸۲] .. إذن دور المرأة أن تكون احتياطيا والرجل هو اللاعب الرئيسي وعندما تنزل للعب تكون بالنصف، حيث يستبدل لاعب باثنتين مكانه.
كما يقولون إن هناك إهانة شديدة للمرأة حيث لا تتولى المرأة رئاسة الدولة ولا تتولى القضاء في بعض البلاد، كما يتبرأ الله تعالى أن تكون عنده بنت وذلك في قوله تعالى: ﴿ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبسَنِينَ [الصافات ] .. مَا لَكُرْكَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [الصافات ] ، وَجَعَلُوا الْمَلَيكَة الَّذِينَ هُمْ عِبَدُ الرَّحْمَنِ إِنما ﴾ [الزخرف:١٩]
وهذا الكلام في الحقيقة أنا سمعته بنفسي ولا أنسى لقاء في جامعة في أقصى غرب كندا، حيث البرد الشديد، إذ تصل درجة الحرارة إلى ٤٠ درجة تحت الصفر، يعني عندما تستنشق في الوضوء، وتنسى أن تجفف أنفك جيدًا تجدها قد امتلأت ثلجا بمجرد الخروج إلى الطريق ..
في هذه الجامعة كان هناك لقاء للطلبة المسلمين وغير المسلمين من الفتيات وطبعا ما شاء الله ولا قوة إلا بالله على الالتزام والعفاف والحجاب والأدب والحياء وهؤلاء الفتيات كن يناقشن، وتشعر برغم حبهن الشديد للإسلام أنهن لا يفهمن الإسلام حيث يسألن عن
الأمور البدهية.
والحقيقة هذا الكلام خطير، ويدل على عدم فهم الإسلام.
فلابد أولاً أن ننوي أن نفهم ونفقه القرآن، يقول الله تعالى: ﴿ أَفَلا يتَدَبَّرُونَ الْقُرْهَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد] لذا يجب أن ينوي )
كل مسلم أن يتعلم العلم؛ ليحيا بنا الإسلام، من تعلم العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء في الجنة درجة واحدة.
هؤلاء لم يفرقوا بين نظرة الإسلام إلى الرجل والمرأة كذات، وبين نظرة الإسلام إلى الرجل والمرأة كوظائف، فالذات تعني القيمة الذاتية للشخص، أما الوظيفة فلها قيمة أخرى، فأنت ترى المهندس ومساعد المهندس .. المهندس يأخذ أجرًا غير مساعد المهندس الطبيب والممرض .. الطبيب يأخذ أجرًا غير الممرض .. المحامي وكاتب المحامي .. المحامي يأخذ أجرًا غير كاتب المحامي .. وهكذا .. ولماذا يتكلم هؤلاء عن هذا الأمر بالنسبة للإسلام للرجل والمرأة،
ولا يتكلمون عن بقية التفاوت الموجود في أحكام الإسلام؟
فعلى سبيل المثال في الميراث، عندما يرث رجل ضعف ما ترث المرأة، علما بأن الرجل فُرض عليه أن ينفق طوال عمره، حيث ينفق على أولاده وزوجته وعلى أمه وأبيه .. والمرأة ترث النصف، وليس عليها نفقة، حتى على نفسها .. بل الرجل هو المكلف أن ينفق عليها ويتكفل بطعامها وكسائها وتوفير خادم ،لها والسؤال من الذي ورث
أكثر؟!
وسأذكر لكم أمثلة لتروا روعة الإسلام فمثلاً في الزكاة، أنا عندي فدان وأنت عندك فدان، أنا أزرع فداني وأرويه بآلات الري، وأنت
فأنت
تدفع
ترويه بالمطر، فيجعل الله الزكاة التي علي نصف الزكاة التي عليك زكاة ضعفي، مع أن هذا فدان وهذا فدان، وهذا زرع وهذا زرع، ولكن أنت تدفع ضعف ما أدفع وهذا من أجل وظيفة
الآلة في الري.
القاعدة
مثال آخر، لقد جعل الله الأولاد يرثون آباءهم وهذه هي ا الأصلية، إلا إذا قتله فكل ابن يرث من أبيه، إلا أولاد الأنبياء لا يرثون، فأولاد الأنبياء بلا شك هم الأفضل ورغم ذلك يمنع الإسلام
أولاد الأنبياء من الميراث ولا يمنعني أنا من الميراث.
أيضا تفاوت العقوبة بين الأحرار والعبيد، فالمرأة الحرة التي وقعت في الزنا تُعاقب بضعف المرأة الأمة التي وقعت في الزنا.
وكذلك العقوبة على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تكون ضعف العقوبة التي على غيرهن يقول الله تعالى: وَنِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُن بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ﴾ [الأحزاب: ٣٠] والسؤال: هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أقل شأنا من باقي
الزوجات ليضاعف لهن العذاب؟!
وأيضا التكليف بالهذي في الحج، نجد كل الحجاج عليهم هدي إذا كان الحاج متمتعا أو قارنا، أما حجاج أهل مكة الذين يخرجون من
مكة ليس عليهم هدي، إنها أحكام شرعت وذلك لإطعام فقراء
الحرم.
إذن التفاوت في الحكم ليس إهدارًا لحق أحد، ليس معناه أن الحاج السوري أو المصري أسوأ، أو أقل في نظر الإسلام، وليس معناه أن الأنبياء أقل في نظر الإسلام أو أن أمهات المؤمنين أقل في نظر الإسلام، إنما هذا توظيف حسب الوظائف ...
الإسلام يريد من المرأة ألا تكون مثل الرجل في الخروج من المنزل والعمل والانشغال بالمجتمع والاحتكاك بالآخرين حتى لا تفسد المرأة من الداخل وإلا هُدمت الجبهة الداخلية، فالابن العائد من المدرسة وهو متضايق من زميل أو مدرس أو راسب في امتحان يحتاج لأم تستقبله، وتربت على كتفه وتعلمه وتعيد إليه ثقته بنفسه، وتربيه، ولن تستطيع الأم أن تفعل هذا إلا إذا كانت مهيأة لذلك بالجلوس ٣ أو ٤ ساعات هادئة قبل قدوم أولادها من المدرسة حتى تستطيع أن تنشئ هذا الجيل المميز الذي ننشده، فإن لم تفعل خرج الجيل مدمرا وأنتم ترون اليوم من يشرب المخدرات، ومن يشاهد القنوات الإباحية.
إن المرأة قد كلفها الله تبارك وتعالى بالوظيفة الأهم، وليست الأقل، وكلف الرجل أن يكابد في المجتمع ، لذا عندما نكون بصدد قضية -
أمام المحكمة - مالية فلابد أن يكون الشاهد يفهم في المعاملات المالية، لذا فمن الطبيعي أن الشخص المتواجد في المجتمع ليل نهار هو من يفهم المعاملات أكثر من الشخص غير المتواجد أو المحتك بالمجتمع، لذا كانت شهادة المرأة التي هي بعيدة عن المجتمع نصف شهادة الرجل؛ وهذا ليس إهدارًا لشأن المرأة، ولكن لأن الإسلام كلفها بوظيفة تناسب إلمامها الكافي للشهادة على نحو ما، أما الرجل فالمسألة واضحة عنده مثل عين الشمس.
وأحيانا نسمع )
أستاذة جامعية تقول: كيف يجعل الإسلام شهادة
البواب ضعف شهادتي، وأنا نائبة رئيس الجامعة؟!
فأنت
يا سيدتي إن هذه الشهادة لا تعني أبدًا أن قدرك أقل . منه ... عالمة وهو جاهل، ولكن إذا وجد شخص ساعة قيمة جدا في مدخل العمارة، فسيعطيها للبواب ويقول له يا فلان هذه الساعة وجدتها في مدخل العمارة ولا أعرف صاحبها فخذها حتى يسألك عنها صاحبها فتعطيها له" ...
إن بواب العمارة في هذا الموقف هو أستاذ كبير في علمه، لأنه مشهور عالميا في مجاله .. فيقول بمجرد أن يرى الساعة: نعم يا أستاذ
هذه ساعة أخيك، أخوه شقيقه الذي يسكن في نفس البناية!
سبحان الله ! الأستاذ الجليل العظيم العالم الباهر اللامع لا يعرف أن الساعة ملك شقيقه، ولكن البواب يعرف لأن هذا الأستاذ الجليل ليس فارغ الذهن وإنما هو منشغل بأمور أكثر من ملاحظته لشكل ساعة أخيه، أما البواب فإنه يجلس أمام العمارة متفرغا للملاحظة، فليس معنى هذا أن البواب عالم وأنا جاهل .. ربما العكس البواب لا يقرأ ولا يكتب .. لكن أنا رجل عظيم جدا، وأستاذ عالمي، ولكن هذا لا يخل أن البواب كان أجدر في الشهادة وفي معرفة صاحب الساعة
مثلاً ..
فالمسألة توظيف وظائف وليست منزلة المرأة قد تكون أذكى من الرجل وقد تكون أعلم ، وقد تكون أمهر، وقد تكون أربح وأكسب في الوزارة، ولكن المسألة مسألة وظائف .. وكذلك الأمر في الميراث. ومع ذلك في قضية الميراث تصور معي إنسانا مات وترك ٣٠ مليون جنيه، وعنده بنتان وأبوه وأمه مثلاً، البنتان يرثان ١٥ مليونا، والأب يرث ۱۰ ملايين من ورث أكثر ؟ لو ترك ابنته وأباه وأمه، وترك ٦٠ مليونا، البنت ترث ۳۰ مليونًا، والأب يرث ۲۰ مليونا فقط .. والأم ۱۰ ،ملايين فالبنت ورثت أكثر؛ لأن درجة القرابة ومسألة أن أمامها عمرًا طويلاً جعلاها المستحقة الأكثر للمال، ولكن الأب كبر في السن فيأخذ عشرة وهي ثلاثين في مثل هذه الواقعة،
فالإسلام لا يقول إن المرأة لا تأخذ أكثر من الرجل، بل أعطاها ضعف الرجل في حالة بعينها نظرا للبعد الوظيفي لها.
إذن هناك حالات يرث فيها الولد ضعف البنت، وحالات أخرى ترث فيها البنت ضعف الولد وذلك حسب الوظائف، وليس قدر
الذات إطلاقا ..
ثم لماذا لا يعترض أحد على الأحكام التي تفضل المرأة على
الرجل؟
وقد جاء أن الجنة تحت أقدام الأمهات، فلماذا لم يعترض هؤلاء ويقولون لماذا لم تكن الجنة تحت أقدام الآباء، يقول الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ [الملك: ١٤] ، كما يقول ﴿قُلْ أَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ [البقرة: ١٤٠]. كما يقول صلى الله عليه وسلم: "أعظم الناس حقا على الرجل أمه" (رواه الحاكم)، ويقول من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك .. " (متفق عليه).
ولماذا لم يعترضوا على أن الحضانة للنساء؟ ولماذا لا يقولون إن الإسلام يفضل المرأة على الرجل؟
ابن عمر بن الخطاب طلق زوجته لأنه رأى أنها ليست متدينة بالقدر الكافي، يعني لسبب ديني، فتنازعوا على المولود الصغير، فعمر
بن الخطاب الفاروق، وأحد العشرة المبشرين بالجنة يريد للولد أن
يتربى في بيته، وأمه التي . طلقت
تريده، فاختصما إلى الرسول - عليه
الصلاة والسلام - فقضى بالولد لأمه، وقال: هذا عبق، ورائحة الأم
في قلب الصغير أفضل منك يا عمر، وقضى بالحضانة للأم.
حتى لو كانت الأم غير موجودة والأب موجود، فالإسلام لا بعطي الحضانة للأب، وإنما يعطيها لأم الأم، لأن هناك شيئًا اسمه حضانة النساء والطفل يحتاج لهذا الحصن والحنان، فهل الإسلام هنا أنثوي؟ ولم يقل أحد إن الإسلام يفضل المرأة .. بل لم يذكروا هذه الأشياء؛ لأنها خطة ومؤامرة.
إن المجلس القومي للمرأة وجمعيات المرأة والسيدة فلانة والسيدة فلانة والأميرة فلانة والهيئة الفلانية وكذا والعالم، ثم نجد العقاب للبلاد الإسلامية؛ لأنها لا تعطي المرأة قدرها و .. و .. كل هذه خطط ومؤامرات ضد الإسلام والمسلمين.
ولدينا أيضًا مسألة تحريم الذهب على الرجال وأنه يحل للنساء، هل هذا لأن النساء أفضل من الرجال؟ وأيضًا الحرير وهذا لأنه طبيعي أن ترتدي المرأة هذه الأشياء دون الرجل، وهو ليس تفضيلاً للمرأة وإنما هو توزيع للوظائف.
يعني عندما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل "خيركم خيركم لنسائه" (رواه الترمذي)، ولم يقل خيركن خيركن لزوجها، صحيح أن حُسن تبعل إحداكن يعدل ذلك كله، لكن خيركم خيركم
لنسائه.
إذن الإسلام لا يعرف المعركة التي صنعها الجهلاء والأعداء، والمتربصون بالإسلام قائلين إن المرأة ضد الرجل والرجل ضد المرأة وإن هناك صراعًا وإن المجتمع الإسلامي ذكوري وليس مجتمعا أنثوياً. إذن الإسلام يوظف الوظائف، حيث يجعل مهمة الرجل أن يأتي بالطعام والشراب وهذه هي المهمة الأقل، ولكن مهمة رعاية البشرية . جعلها الله للمرأة وهي الأعلى.
فالإسلام يقول للمرأة لقد جعلتُ تلك الوظيفة لك وإن لم تقومي بها فسد الجنس البشري، ولأنني حميتك فستقومين بهذه الوظيفة بشكل جيد ومن هنا قللت عمدا خبرتك بالمجتمع، لأوفرك لوظيفتك التي
هي أعظم وظيفة على وجه الأرض.
ثقافة الكراهية
كثيرون يقولون: أنتم تقولون إن الإسلام دين الوئام والسلام الاجتماعي والمحبة وجمع الناس والتواصي بينهم وإن المسلمين هم الرحماء، وقد قيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عَزِيزُ عَلَيْهِ مَا عنتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيرٌ
[التوبة:١٢٨]
وإنه قد عفا عن الناس فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء، وإن المجتمع الإسلامي وسع المسلم وغير المسلم إلا أن الحقيقة أن آيات القرآن مليئة بالعكس، ففيها ما يدل على زرع ثقافة الكراهية، يقول تعالى: هَانَتُمْ أَوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ﴾ [آل عمران: ١١٩]، ويقول: (قد كَانَتْ لَكُمْ أَسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ ؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تعبدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى
تُؤْمِنُوا ﴾ [الممتحنة: ٤]
.. إنها ثقافة الكراهية، فالقرآن مليء بغرس ثقافة الكراهية، ولذلك فإن المسلمين لا يستطيعون أن يعايشوا المجتمعات العالمية.
وهذا الكلام يغزل عليه الإعلام الأمريكي والأوروبي واليهودي، والإعلام الذي يخطط ضد الإسلام تماما، الأسف فإن أبناء ومع المسلمين في بلاد العالم - ولقد لقيتهم بكثرة – أحيانًا يتأثرون بهذا، حتى المثقفون الذين يشغلون مناصب مثلاً في الصحافة أو في الإعلام، أو في هيئة استعلامات أو في التلفاز أو حتى في جهات مثل وزارة الخارجية والسفارات، نجد هؤلاء أيضًا متأثرين بهذا الكلام؛ لأنهم لا يفهمون الإسلام .. والأخطر أنهم لا يعرفون عن الإسلام إلا من خلال أقاويل أعداء الإسلام، فنجد سفيرا لم يسمع عن الإسلام من دعاة الإسلام قط ولا من الكتب الإسلامية، وإنما يسمع عنه دائما من أعداء الإسلام ومن إعلامهم ..
مسلم كل حصيلته عن معرفة الإسلام من أعداء الإسلام ومن الثقافة الغربية، صحفي كل حصيلته عن الإسلام من أعداء الإسلام، ويسمي نفسه مفكرًا أو كاتباً أو أديباً.
وتلك مصيبة الأمة في هذه العصور، أن فيها من وظفوا غصبا عنا، ووضعوا في مناصب التوجيه، وهم أصلاً لم يتلقوا أي ثقافة إسلامية من الإسلام، وإنما دائما يستمدون من أعداء الإسلام ..
والحقيقة أن هذه الشبهة التي ذكرتها ليست قائمة، بالعكس، فإن الإسلام فعلاً عندما تقرأ آيات القرآن تجده يبث ثقافة المحبة والمودة
والوئام والسلام بشكل حقيقي، ولكن المشكلة أن هؤلاء الناس لم يقرأوا بقية الآيات هؤلاء يقصون الآية عند نقطة معينة، يقسمونها نصفين، فيظهر لك النصف الذي قرأه ولو أنه فقط أكمل تلاوة الآية
نفسها لتبين أن المفهوم الحقيقي عكس المفهوم الذي يريد أن يقوله. إن الإسلام فعلاً يقطع ما بين الإيمان والكفر بخطوط فاصلة، فالإسلام يرى أن المؤمن مؤمن، وأن الكافر كافر، يقول الله تعالى: وقُلْ يَتأَيُّها الكَفِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَبدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ [الكافرون] ، ولكن الإسلام لا يجعل من هذه المسألة ا مسألة كراهية عاطفية، أو كراهية مزاج، ولكنه يجعلها كراهية اعتقاد. وكراهية الاعتقاد . هي أن أعرف أين الحق وأدركه، وأسير عليه، وأحب أهل الحق، وأكره أهل الباطل .. ولذلك تجد القرآن يقول: هو ينائها الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران:۱۱۸] ، إياكم أن تجعلوا من حولكم بطانة لا تجعلوا المساعدين والمستشارين وهيئة تعاونكم من دونكم، أي من غير المسلمين، فيقولون: هذه هي ثقافة الكراهية، نقول لهم: اقرأوا بقية الآية ﴿يَتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ﴾ [آل عمران:۱۱۸] ، لا
يقصرون في أن يصيبكم الخبال، والإفساد والإضرار ..
وأنا أذكر الرجل الذي اكتشفوا أنه كان جاسوسا لأمريكا في الاتحاد السوفيتي وله أكثر من ٣٠ أو ٤٠ عاما، وكان قد وصل إلى منصب كبير في الحزب الشيوعي السوفيتي، قالوا له: ماذا كنت تفعل؟ قال: أنا كنت مكلفاً أنه إذا قيل لي إن هناك أكثر من مرشح لمنصب أن أختار الأسوأ منهم. إن الله تعالى قد قدم العلة حيث قال: لا تجعلوا هؤلاء هم من يتحكمون في دواخل مجتمعاتكم؛ لأنهم لا يألونكم خبالاً، وليس لأنهم غير مسلمين.
يقول الله تبارك وتعالى إن هؤلاء غير المسلمين الذين تسارعون في مودتهم أرادوا أن يُخرجوا الرسول وإياكم، يقول الله تعالى: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: ٢٢] ، حاد الله أي جعل حد السيف على الله، يقول الله تعالى:
سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةِ عِدَادٍ أَشِحَةً عَلَى الْخَيْرِ ﴾ [الأحزاب: ١٩].
إذن هذا الموقف ليس لأنهم غير مسلمين، وإنما لأنهم يستخدمون حد سيفهم، وحد لسانهم، وحد تخطيطهم، ومكر الليل والنهار، يقول الله تعالى: ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا وَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: ٧٢] ، أي لعلهم يتذبذبون ويرتدون.
فهل يعقل أن آتي أنا بهؤلاء وأجعلهم أولياء، يقول الله تعالى: هانتُمْ أَوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ﴾ [آل عمران: ١١٩] ثم نقرأ باقي الآية حتى نعلم أنه ليس اللوم لزرع ثقافة الكراهية كما يقول أعداؤنا بقية ا الآية تقول : مَانَنتُمْ أَوَلَا تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَبِ كُلِهِ، وَإِذَا لقُوكُمْ قَالُوا وَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾ [آل عمران: ١١٩].
ويقول الله تعالى: ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءٌ فَلَا نَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ
حيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء] ، كما
يقول الله تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَهُمْ ) [البقرة: ١٢٠] رغم أنهم يُظهرون لنا الجانب الحسن ويعاملوننا بطريقة . جيدة لذا لابد أن نعطيهم ،حقوقهم، ونكون بارين بهم، ونحسن
إليهم. فهل كان الإسلام يزرع فينا ثقافة الكراهية تجاههم، رغم أن منهم أناسًا ليسوا كذلك، لا يعاندون ولا يضمرون للإسلام حربًا ولا شرا؟ جواب هذا السؤال لم يتركه الله تعالى لنا حتى نستنبطه، وإنما جاء في محكم القرآن في سورة الممتحنة، يقول الله تعالى في آيتين متعاقبتين في
منتهى الوضوح : تَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَدًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَانِى تُسِرُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة ) ، ثم يقول: لَا يَنهَنكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يخرجوكم من دِيَرِكُمْ أَن تَبَرُوهُمْ ﴾ [الممتحنة : ٨]
أي نقوم بالبر معهم، كأن نعطيهم هدية .. نهنئه بزواج ابنته .. أعاونه في إصلاح سيارته .. أعاونه في البناء .. وكل لون من ألوان البر، من يمرض أزوره، سواء كان يهوديًا أو كافرًا أو ملحدا، يقول الله تعالى: ﴿ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَةٌ ﴾ [الأحزاب:١٩] كما يقول: يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: ٥] ما دام لا حرب ولا قتال ولا ظلم منهم، إذن لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَرِكُمْ أَن
تَبَرُوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة ].
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنهَنكُمُ اللهُ ﴾ [الممتحنة: 9] وكما يقول علماء التفسير وعلماء اللغة العربية ، جملة إِنَّمَا يَنهَنكُمُ اللهُ أسلوب حصر وقصر، يعني لا ينهاكم الله منهم إلا على الفئة التي سأذكر لكم صفاتها، هذه
هي
الفئة التي سأقول لكم عنهم يقول: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَتَلُوكُمْ
فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَرِكُمْ وَظَهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ ﴾ [الممتحنة:٩] إذا كان اليهود قد أخرجوكم من أرض فلسطين والجولان وسيناء ومن الأردن ولبنان، فإن الله لا ينهاكم عمن أخرجكم فقط وإنما عمن ظاهره، أي ساعده أيضًا على إخراجكم وَإِن تَوَلَّوْا أي إياكم أن تتولوهم أي يكون بينكم وبينهم ولاية، يقول الله تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَرِعُونَ فِيهِمْ ﴾ [المائدة: ٥٢] أي يتقربون إليهم ويتخذون عندهم الوسيلة ويبتغون إرضاءهم، ويكون بينهم صلة، يقول الله تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ تَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَابِرَهُ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَدِمِينَ ﴾ [المائدة] يندمون على تصورهم أن هؤلاء الناس
يمكن أن يأتي الخير من طرفهم، أو من علاقتهم بهم.
لذلك ربطت هذه الآيات عداوتنا لهؤلاء لا بسبب أنهم يهود أو نصارى أو ملحدون، وإنما بسبب أنهم يعادوننا، يحرموننا حقوقنا، يخرجوننا من أرضنا، يعتدون علينا، وبعد ذلك لن تجد آية واحدة في القرآن تقول لك عادهم إذا تركوا المعاداة، وإنما أن نبرهم ونقسط
إليهم.
وإذا كان هؤلاء الناس لا يحاربوننا ولا يحبوننا، فهل نعاقبهم بسبب عدم حبهم لنا؟
بالطبع لا .. إذا اقتصرت كراهيتهم على العاطفة ودواخل نفوسهم. وبهذا تتضح الصورة وهي كالآتي: إن الإسلام قد أمرنا ألا نحرمهم حقوقهم، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنهُ ﴾ [التوبة:7] ، سواء كان كافرًا أو مسلما أبلغه مأمنه، أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، لا تنقصوا لهم عهودهم، وإنما "من آذى ذميًا أو انتقصه شيئًا من حقه كنت خصمه القيامة، ومن كنت خصمه خاصمته" (رواه الطبراني) .. والقاعدة يوم أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وقال القرآن في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم : لو عَزِيزُ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: ۱۲۸] ..
ولذلك عندما يقف الإعلام العالمي، ويقول لي: أيها المسلم إن عندك ثقافة الكراهية، أقول له: أنا آسف جدا، أنت تريد من هؤلاء أن يكرهوني وأن يعملوا ضدي وأن أحبهم، بل القرآن قال لي: إن انفصل كفرهم عن العداوة ضدي، فإنني لن أعاديهم، وإنما أنا أعاديهم؛ لأنهم يعادونني وليس الأمر متعلقا بثقافة الكراهية.
ولذلك ما يحدث الآن من ضرب العالم الإسلامي، لدرجة أن الشريعة الإسلامة غير مطبقة في أي بلد، وأنه إذا طبقت حدث حصار لها، وأن المسلمين لا يمكنون من شرائعهم، ولا من ثرواتهم، ولا من أرضهم، فإذا تضايق المسلمون من هذا قلتم عنهم إنهم يطبقون ثقافة الكراهية، إنما هذه الثقافة هي ثقافة الحب والمودة، وجمع الناس على كلمة سواء، وترك العداوات والبغضاء بينهم، وما إلى ذلك، وإنما إذا أصروا على الكفر فإننا نكره كفرهم ...
ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَلُ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَبَجَرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا
أن
ومسكنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم ﴾ [التوبة:٢٤] ، وهذا يعني الدين حبيب لنا وهؤلاء أيضًا أحبة، لكن العبرة من الأحب؟ من
الذي أنصره على من؟ يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أأَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَنَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ﴾ [المجادلة:٢٢] ، فكان قول هؤلاء إن الإسلام يزرع بينكم وبين الآباء كل هذه العداوة، يزرع بينكم وبين الإخوان، وبينكم وبين العشيرة .. نقول لهم اقرأوا الآية .. الآية تقول:
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ فلو أن أبي أمسك السيف، وحاشاه ذلك، لو أن والدي أمسك السيف يريد أن يضرب عنق النبي - صلى الله عليه
وسلم - أأدافع عن أبي أم أدافع عن النبي؟ هنا تأتي الفكرة.
إن الإسلام دين منطقي والآيات واضحة، ولكن الذين يقرأون الآيات بعيدا عن سياقها، ويريدون أن يلقوا في روع الناس كلاما غير حقيقي لا طاقة لنا بهم، بالعكس النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق الناس، وقال: : اذهبوا فأنتم الطلقاء" قبل أن يسلموا، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، ولكن قبل أن يسلموا أطلقهم جميعا، وعكرمة بــن أبي جهل قد جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم- فأحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه مع أنه كان كافرا، لدرجة أن زوجته قالت: إن عكرمة خائف أن يجيء، وأنا لو كنت مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنت قلت لهم وماذا أفعل له؟ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم – فك عمامته وقال لها خذي هذه علامة .. عمامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذها شخص كافر، وأبوه كافر وهو أبـو جهل، فلما رآها دخل وأسلم وحسن إسلامه وصار من كبار
الصحابة.
إن الإسلام يحب الناس ويحرص عليهم ، ولكن إن كانوا محاربين له فلا يطلب منا أن نكون أهل غفلة ونحبهم وهم يكرهوننا ...
لله في خلقه شئون:
لا شك أن من فضل الله تعالى على الإنسان أن تستقر عنده معالم التوحيد، ومعاني الإيمان بالله رب العالمين، فإذا استقرت عنده معالم التوحيد، فإنه يشعر تلقائيا بالعداوة الشديدة جدا لكل ما هو شرك، ولكل ما هو كفر، ولكل ما هو نقيض للتوحيد، فيكره عبادة الحجر، ويكره عبادة الشجر، ويكره عبادة الجن، ويكره عبادة البشر، ويكره
عبادة الملائكة، ويُعبد الله وحده لا شريك له.
لهذا فإن الذين رباهم الإسلام على التوحيد هم أنفسهم الذين يخرجون لنا بأسئلة بعد ذلك يقولون يا جماعة فسروا لنا بعض الظواهر التي قد لا نفهمها، فنحن نعرف أن الإسلام قد حمل على الوثنية، وعلى الشرك وما إلى ذلك، ولكننا أحيانًا ننظر إلى بعض الآيات في القرآن الكريم فنجدها تأمرنا بأن نطوف بجبل، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَابِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَوَّفَ بِهِمَا ﴾ [البقرة : ١٥٨] ، أطوف بجبل!! أطوف بحجر !! أصلي
وراء مقام إبراهيم، يقول الله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى )
[البقرة: ١٢٥] ..
يقول البعض أنا لا أفهم كيف أبطل الإسلام عبادة الأوثان ثم يأمرنا بالطواف بالكعبة، وبالصفا والمروة وبئر زمزم، ورمي الجمرات
كيف يمكنني أن أوفق بين هذا وذاك؟!
الحقيقة أن الله - سبحانه وتعالى - له في خلقه شؤون، وهو يعلمنا التوحيد، ويمنعنا من الفساد، الإسلام لم يطلب مني أن أكون عدوا
للحجر، إنما المسلم الذي فهم ذلك اشتط في الأمر، الإسلام أمرني أن أكون عدوا للمعنى الموجود، هبل هذا حجر، ولكن أنا لست ضد
الحجر، أنا ضد أن يكون إلها.
لذلك أراد الإسلام أن يقول لي لا أنت ستكون مع الله، ولكنك لا تعادي الحجر؛ لأن هذا الحجر ينطق يوم القيامة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤذن عندما ينادي للصلاة لا يسمعه حجر، ولا شجر، ولا وبر، ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة، ويكرر ما يقوله. إذن هذه كائنات تعبد الله بل هذه الأرض كائن حي، الله تعالى
يقول عنها: إنها تحدث يوم القيامة أخبارها، ويقول: إنها تبكي.
يقول تعالى مخبرا عن حال بعض الناس بعد موتهم: ﴿فَما بكت
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ﴾ [الدخان].
إذن السماء والأرض تبكيان إذا مات من كان يصلي فإن موضعه . الذي كان يصلي عليه يحن ويئن ويبكي؛ لأنه فقد الطاعة، لأنه عندما كان يسجد لله ويقول سبحان ربي | الأعلى، كانت تسمعه الأرض لذا فهي تبكي موته، فهذه الأرض ليست عدوّا، والحجر الموجود في
الأرض ليس عدوّا، إنما هو حبيب وسيشهد لي يوم القيامة. لذلك جاءت شرائع الإسلام تعادي الحجر؛ لأنه عبد من دون الله،
وأرادت شرائع الإسلام أن تقول لنا: لا تعادوا الحجر لذاته.
وهو نفس الحال مع الذين عبدوا الملائكة، فهل أنت تعادي الملائكة، بالعكس الملائكة أولياؤنا وشرط في عقيدتنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهناك أناس عبدوا عيسى عليه السلام، فهل أنا أعادي المسيح؟ بالعكس، أنا لن أدخل الجنة إلا إذا آمنت . المسيح - عليه السلام - وبأنه رسول الله، وكلمة الله، وروح الله كما وردت أوصافه في القرآن الكريم، فهو عبد الله رب العالمين.
الله، ومع
بعيسى
فأنا في كل هذه المراحل مع الله . الملائكة ومع المسيح، لا أعادي ما عبد من دون الله، بل من عُبد من دون الله [ود، وسواع،
ويغوث، ويعوق، ونسر ] كانوا أناسًا صالحين، أليس كذلك؟ ﴿وَقَالُوا لَا تذَرُنَّ الهَتَكُم وَلَا نَذَرُنَّ وَذَا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح ] فنجد أناسا يقولون أنا أكره هؤلاء الناس جدا، والصحيح ألا نكرهم
فهم كانوا عبادًا صالحين، وأولياء الله ، لكن عندما ماتوا عبدهم ضعيفو الإيمان، فنحن نكره عبادتهم، ولكن نحبهم؛ لأنهم أولياء صالحون. اليوم عندما يذهب الناس لضريح الحسين، أو ضريح إبراهيم الدسوقي أو ضريح السيدة نفيسة أو ضريح السيدة زينب، ويفعلون مظاهر الشرك والوثنية والكفر التي تُفعل، حيث يتمسحون بالضريح، ويقبلونه، ويطلبون منه قضاء الحوائج هذه كلها أفعال شركية .. لكن هل معنى هذا أن أكره الحسين أو أكره السيدة زينب أو السيدة سكينة؟ بالعكس أنا أحبهم؛ لأنهم من الصالحين، ومن أولياء الله الصالحين، ولا نزكي على الله أحدا، ومن أهل البيت فلا نكرههم ولكن نكره من جعلهم آلهة ...
إذن فموقف الإنسان من الحجارة أنه ليس عدوا للحجر، وإنما هو عدو للمعنى الذي أسدله البشر ظلما وعدوانا وكفرًا وشركا واعتداء على هذه الأحجار.
لذلك يعامل الله تبارك وتعالى في شعائر الحج بشراء فالله هو الذي خلق البشر، وهو يعلم ما الذي يصلحهم، وهو يعامل البشر بصفتهم، هل تعرفون ما هي صفات البشر أو من صفاتهم الجوهرية الأساسية في هذا الأمر؟
إن البشري إذا تركته لفكرة عقلية فقط دون تدريب بدني، وجسدي، وعملي، وممارسة، فإن الفكرة العقلية تظل تخفت، وتضمر، وتصغر حتى تتلاشى أو تصبح شيئًا لا يُحس، إنما كل فكرة عند البشر تريد لها أن تقوى لابد أن تجعل لها تدريباً عمليا ...
كل حياة البشر كذلك، يعني حتى في العلاقة بين الزوج وزوجته لا يظل يحبها وتحبه طوال العمر إلا إذا كان بينهما شعيرة اللقاء الجسدي الجماع بما فيه من لذة ومتعة وأيضًا في الفسحة أو في النزهة، أنت
تذهب للبحر وتلعب كرة وتتمشى وهذا تدريب وتشغيل للبدن حتى في التسوق، أنا أريد أن أشتري رابطة عنق، والزوجة تريد فستانًا، والولد يريد حذاء، فيقول الأب سأشتري لكم كل هذا .. لكنهم يقولون: لا، نحن نحب أن نخرج ونشاهد الأشياء بأنفسنا فهم يريدون أن يروا وينتقوا فيعودون سعداء بالفكرة نفسها أنهم ذهبوا
للتسوق ..
المصريون أحيانًا يقولون عن السائحين إنهم مجانين فهم يأتون من آخر الدنيا لكي يشاهدوا الهرم، والهرم ليس إلا حجارة، كانوا يستطيعون أن يقرأوا عنه ويشهدوا الصور، لكنهم يذهبون ليروه
بأنفسهم .. إذن هذه سنة بشرية أن البشري الذي يرى غير البشري الذي لا يرى البشري الذي يعايش غير البشري الذي لا يعايش ...
وأذكر في إحدى المرات في المرحلة الثانوية أن أستاذ الكيمياء في المدرسة أعطانا معادلة أنه إذا وضعت السائل الأول على السائل الثاني يحدث التفاعل ويخرج السائل الثالث ولونه أزرق، ثم أخذنا إلى المعمل، وقال: انظروا يا أولاد السائل الأول الذي لا لون له، وهذا السائل الثاني الذي لا لون له، وسأضع السائل الذي لا لون له على السائل الذي لا لون له وستفاجؤون بسائل أزرق يكون نتيجة التفاعل الكيميائي، انظروا، فوضع السائل الأول على السائل الثاني وكلنا يتوقع الزرقة، فإذا بنا أمام سائل أحمر، فضح الفصل كله بالضحك، وبعد أن ضحكنا ملء أفواهنا، قال الأستاذ: أرجو ألا تنسوا أبدا هذه التجربة، ثم قال: أنا لم أخطئ فقد تكون فعلاً السائل الأزرق ولكن نظرا لأننا قمنا بعمل التجربة في الهواء الطلق فقد تفاعل السائل الأزرق مع الأكسجين الموجود في الجو فنشأ السائل الأحمر، وأنا أتذكر هذا الكلام حتى الآن ربما أكون نسيت ما هو السائل الأزرق وما السائل الأحمر، ولكن لا أنسى أبدا هذه التجربة .. لأنني لم أذاكرها في الكتاب فقط وإنما شاهدت تلك التجربة بعيني واختلطت
بمشاعري وضحكات زملائي وكلام الأستاذ ...
وهذا بالضبط ما أراده الله تعالى فالله يريد أن يحفر بعمق شيئًا مهما داخل النفس البشرية، وهذا الشيء هو أحداث حياة سيدنا إبراهيم، أحداث الملة الإبراهيمية، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل:١٢٣] يعني رأس المال العقدي عند المسلمين هو اتباع ملة إبراهيم، فأراد الله لكل مسلم ألا يقرأ في الكتب في بيته عند أهله عن هذه الأحداث، وإنما أن يعايشها بنفسه، بجسده برجله، ويده، وأعصابه وفكره وبنظره وبسمعه، ويسمع التلبية ويرى وهكذا فالله يحفر العقيدة والملة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك الصفا والمروة، ما هي الصفا والمروة، ماذا يعني الطواف بالصفا والمروة؟ وكيف يكون؟
إن الصفا والمروة قصة كبيرة، حيث بنى الله للبشر بيتا هو الكعبة والمسجد الحرام، وهو أول بيت وضع للناس، وبناه بأيدي الملائكة، ثم انطمس المسجد الحرام، ولم يعد أحد يعرف أين مكان بيت الله، والله يريد أن يجلي البيت الحرام مرة أخرى للمرحلة النهائية في الكون، بعد الذين ماتوا بالحجارة وماتوا ،بالصيحة والصاعقة، والطوفان وبالخسف جاءت المرحلة التي ليس فيها إهلاك، وهي التي تبدأ من مرحلة سيدنا إبراهيم واستمرت ...
فالله يريد أن يخرج البيت الحرام للناس مرة أخرى، ولكن هناك مشكلة كبيرة وهي أن الوثنية والأصنام والأوثان تملأ الدنيا، فهل
يرجع
البيت الحرام في ظل الشرك؟
إن الله يريد التوحيد مكانًا وزمانًا وأشخاصا، فإذا بالله يرسل الضعيفين هاجر وإسماعيل الصغير وهما ذوا حيلة بسيطة؛ ولذلك
أوصى الله بالرحمة بالأرملة؛ لأن المرأة مهما كانت قوية، فهي بعد فقد زوجها تنتابها حالة من حالات الضعف البشري لذا لابد من الرحمة
بها كائنة ما كانت الظروف واتقوا الله رب العالمين.
فأرسل المرأة والصغير واللذين أرسلها الأب إبراهيم الذي ظل طوال عمره يتمنى الذرية الطيبة، يقول: يا رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، ولقد تزوج من سن ٢٠ سنة وظل يطلب من ربه الذرية سنين طوالاً، يقال إنه رُزق بإسماعيل في سن ١٢٠ أو ١٤٠ سنة، ورغم ذلك أول ما أنجب أمره الله أن يذهب بولده إلى الصحراء حيث لا ماء، ولا زرع، ولا شيء إطلاقا، فيقين إبراهيم أولاً، وإذعانه الله والطاعة ثانيًا، وهذا من كمال الإيمان ذهب بهما، واستجابت له زوجته وقالت له: الله أمرك بهذا ؟
إذن توكل على الله، اتركنا هنا في هذا الضياع، فإن الله لن يضيعنا برغم كل ما نحن فيه .. لكن الأمور استحكمت، وعطشت المرأة، وظلت عطشانة حتى نفد اللبن من ثدييها، فأصبح الولد لا يرضع، وعطش هو الآخر، وقد اقترب الهلاك، ورغم ضعفها فقد ظلت تسعى بين الصفا والمروة؛ لأنها كلما ذهبت إلى المروة سمعت صوتا كصوت الماء عند المروة، فتجري إلى المروة، فإذا وصلت المروة أحست صدى صوت وكأنه آت من هناك، فتعود، وظلت كالمجنونة وهي راشدة، كالمجنونة لأنها تبحث عن الماء، فلما عجزت تماما بكل قواها
أن تجد قطرة ماء أنبت الله الماء بعيدا عنها بقدم الطفل الصغير، فظهر بئر زمزم الذي يُجري ماءً إلى يوم القيامة، فأراد الله بكل ذلك أن يسعى الإنسان في الحياة، إن الله تعالى لم يترك الناس يطوفون بالصفا والمروة فقط، وإنما جاء في مكان ما بين الصفا والمروة أقرب إلى الصفاء وأمرهم أن يهرولوا عندها، وهو ما بين المشي والجري، حتى نتحرك
ونعايش ما حدث فعلاً.
وأنا شخصيًا أكثر ما يبكيني في شعائر الحج لحظة الهرولة، أشعر أنني أجري وأهرول بين الناس، وأنا ربما أريد أن أسير بتأن، ولكنني أفعل ذلك عبودية الله ؛ لأن أم إسماعيل فعلت هذا ليحيي الله بها الملة، وليكون المسجد الحرام، وليعاد بناؤه ، وليتفجر الماء، وليأتي الناس من
كل مكان.
إن الله أراد للعبد أن يعايش التجربة، وقس على هذا كل شيء من طواف، وسعي، والحجر الأسود، ورمي الجمرات .. لكن رمي الجمرات على سبيل المثال معناه أن الفتنة التي كان الشيطان يريد أن يبثها في إبراهيم أفشلها له إبراهيم بإيمانه، فانتقل إلى إسماعيل فأفشلها إسماعيل، فقال له : لا .. فقال له الشيطان أتترك أباك الرجل الخرف يقتلك ؟! إنه يبلغ ١٥٠ سنة، وسيذبحك ، راجعه، فما من إسماعيل إلا أن رجمه، فذهب إلى أم إسماعيل فرجمته، وهنا تشعر بقوة الإيمان أمام
وسوسة الشيطان للبشر
فالفكرة إذن هي إحياء ومعايشة ثم لابد أن يكون واضحا أن الإحياء والمعايشة بأن المسلم لا يعبد الحجر الأسود، ولا يعبد أحجار
الكعبة، ولا غيرها .. وإنما يعاملها كعبيد الله ...
فأنا لا أعظم شجرة الرضوان ولا أعتبرها كفرا، وهناك شجرة اسمها شجرة ذات أنواط شجرة ذات أنواط هذه كانت تعبد في الجاهلية، وقد قطعت في الإسلام، وهي شجرة أخرى غير شجرة
الرضوان، فالإسلام الذي أعلى من شأن بيعة تحت شجرة، هو الذي حمل على عبادة شجرة، والإسلام الذي حمل على عبادة هبل واللات والعزة كحجارة، هو الذي قال إن تقبيل الحجر الأسود والتزام أحجار الكعبة هي سنة للمعنى الذي فيها، والذي قال: إن عبادة فرعون كبشر تجعلني عدوّا لفرعون، وهو الذي قال: أنا أحب المسيح، فرعون عبد ، والمسيح عبد .. لكن المسيح أنا أحبه برغم أنه عبد؛ لأنه
قال: أنا عبد الله، أما فرعون فقال: أنا ربكم الأعلى، فأنا أكرهه. إذن أنا لا أحب البشر لذاتهم، ولا أكرههم لذاتهم، لا أكره النبات لذاته، ولا أحبه لذاته، كذلك لا أكره الحجر لذاته ولا أحبه لذاته .. بل هذا الحجر يشهد لي عند الله تعالى الذي ذكر أن الأرض تبكي لموت
الصالحين، بمفهوم المخالفة حين قال: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ﴾ [الدخان ] .
يعني
لذلك أرى أن شعائر الحج فيها معنيان: معنى المعايشة بالبدن، مثلاً في المزدلفة ما قبل المزدلفة أرض الحل، وما بعد المزدلفة أرض الحرم، فأنا حين أدخل إلى أرض الحرم يوقفني الله، ويقول لي: بت هنا هذه الليلة، بت في العراء، المبيت بالمزدلفة، لماذا يا رب؟ لتشعر بأنك داخل إلى أرض مقدسة، وهي محرمة قد حرمها الله، وجعل اقتلاع الزرع منها محرمًا كما حرّم فيها الصيد، يريد الله سبحانه أن تحس وتشعر فسماها المشعر الحرام، المشعر، الذي يأتيك بالشعور .. فهل سأشعر بكل ذلك في ٥ دقائق؟ والجواب : لا .. لابد من المبيت، طوال الليل والصبح أذكر الله يقول الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكرِكُمْ ابَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة:٢٠٠] ، لبيك اللهم لبيك .. لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله، أنا عبدك وأنت ربي، نعمك علي كثيرة، يا رب يا رب.
فإذا ما تحملت كل ذلك أحسست بالشوق إلى الله، وحينها تدخل
الحرم بشعور مختلف ..
إذن المسألة ليست مسألة حجارة ولا أماكن ولا أشياء، وإنما شعور
القلب بالرحمة وبالإقبال على الله
اللهم
آمين.
أذقنا حلاوة الإيمان، وأشعرنا به يا أرحم الراحمين اللهم
عصمة الأنبياء
إن الحديث عن عصمة الأنبياء، وعن نضح مشاعرهم البشرية، لهو جزء من الأسوة الحسنة والله تعالى قد أبقاها فيهم من أجل أن يشعروا بالشوق وبالخوف وبالحنين، وبالفزع، وبالغضب حتى يكونوا أسوة للبشر، فلو جمدت قلوبهم ومشاعرهم لما أمكن أن يكونوا أسوة للبشر أبدا، وهم من أجل هذا تعلموا بالشرع وبالوحي كيف يهذبون هذه المشاعر، وعلّموا هذا لأممهم، وكذلك الحال مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - حيث علمه الله فعلم البشر.
تندرج
ولكن يأتي سائل، ويقول: ولكنني أقف أمام أمور في القرآن لا تحت هذا، ولا أفهمها ولا أقبلها فيوسف الصديق يقبل مراودة المرأة، ويوشك أن يقع معها في الفحشاء، وفي الزنا، وفي العلاقة الآثمة .. لولا الظروف الطارئة التي حدثت فمنعت عنه ذلك، يعني لولا ذلك لوقع معها فيكون هناك نبي قد وقع والعياذ بالله في الزنا، نبي يفعل ذلك؟! لا أستطيع أن أتقبل ذلك، كيف يقول
الإسلام هذا؟!
ثم غير ذلك، هناك أشياء أخرى مثل اتهام سيدنا يوسف مثلاً لإخوته بالسرقة، يقول الله تعالى: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ )
[يوسف: ٧٠] ، يقول لهم يوسف أنتم سرقتم رغم أنه يعرف أنهم لم يسرقوا وإنما فعل ذلك فقط حتى يستطيع أن يأخذ أخاه أسيرًا، ويقبض عليه، ويحبسه ليضمه إليه، لقد فعل هذه الحيلة، فكيف يفعل ذلك وهو نبي ومعصوم من الخطأ؟!
ويقول قائل آخر ليس يوسف وحده، وإنما إبراهيم إبراهيم.
(خليل الرحمن) يعبد الشمس ويعبد القمر، ويعبد الكواكب، فلما رأى القمر قال هذا ربي، فلما رأى الشمس قال هذا ربي، فهل هذا معقول ؟! كيف يعبد الشمس والقمر والنجوم والكواكب ثم يهتدي بعد ذلك؟! كيف يكون هذا، ويفعل ذلك؟! كيف يسجد لهذه الأشياء! وهل هذا السجود مباح أم غير مباح؟
الحقيقة أن هذا الكلام معناه أننا نحتاج أن نتعلم العلم، علم التفسير، ونتعلم القرآن ونفهمه؛ لأن من يقول هذا الكلام شخص لا حول له ولا قوة حظه من العلم قليل .. وقبل أن أتكلم في القواعد العامة أريد أن أرد على هذه الأمثلة؛ لأنني أثرت شبهة لذا يجب أن أرد عليها أولاً وإلا تكون هناك مشكلة.
يوسف - عليه السلام - لم يقع في الفاحشة ولم يفكر، ولم يستجب حتى للمرأة، يوسف رفض وأبى تماما من أول لحظة لآخر لحظة، وإنما
عدم معرفتنا بكلمات اللغة العربية هي التي أوقعتنا في هذا اللبس يقول الله تعالى: ﴿وَرَوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ، وَغَلَقَتِ الْأَبْوَابَ وقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّ أَحْسَنَ مَنْوَاكَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: ٢٣] ، ثم يحكي القرآن ويقول: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ [يوسف: ٢٤] ، أناس كثيرون يظنون أن همت به وهم بها) بمعنى أنه كان ينوي أن يقع معها في علاقة خاطئة، من الذي
قال هذا ؟
كلمة وَهَمَّ ) تعني ب أنه ينوي أن يفعل شيئًا، فكلمة يهم وحدها لا تكفي، لابد من كلمة وراءها تفسرها هم بماذا؟ من هم بحسنة ثم لم يفعلها .. ومن هم بسيئة ثم لم يفعلها .. هممت أن أضرب .. هممت أن آکل .. هممت أن أسافر، بماذا هم؟
فلابد من الكلمة التي وراءها، لكن قوله (هم بها ليست بمعنى أنه هم أن يقع بها .. ولقد فسرت آيات القرآن نفسها.
وقبل التطرق لتفسير آيات القرآن أحذر من الإسرائيليات؛ لأن منهج بني إسرائيل هو إهانة الأنبياء، فعقيدة اليهود من بني إسرائيل كعقيدة منهجهم .. إهانة الأنبياء والتحقير من شأنهم، هذا مبدأ من
مبادئ العقيدة عندهم ..
فهم . مثلاً يقولون إن يعقوب هو إسرائيل، وإنه صار إنسانًا عظيما جدا، وأخذ النبوة بالقوة، كيف؟ وهذه الواقعة يهينون بها الله عز وجل، والله لا يهان حاشاه ذلك، ولكنهم يقصدون ذلك، حيث يدعون أن الله رفض أن يعطي يعقوب النبوة والرسالة؛ لأنه كان سيعطيها لأخيه الكبير، لأنه كانت سنة الله في أنبياء بني إسرائيل أن يبارك الأخ الأكبر فجعله هو النبي وأخوه الكبير كان اسمه عيسو، فقرر الله أن يكون عيسو نبيًا، إلا أن يعقوب كان بصيرا، فعرف أن الله ينزل بالليل ليتفقد أحوال العباد فترصد له خلف شجرة، فلما رآه قادما من بعيد نظر إليه فعرفه، فانقض عليه وأنشب أظافره في عنقه وظل يصارعه وقال له: باركني، فقال له: لقد باركت أخاك عيسو، فقال له: لا، أنا الذي أستحق النبوة، فقال له: لا، عيسو، قال: لا، أنا، يقولون: فظلا يتعاركان وربنا يقول يا يعقوب اتركني سيطلع الصبح، والعباد سيستيقظون ويجدون ربهم هكذا .. فيقول له يعقوب لن أتركك إلا بعد أن تباركني ، فظل الرب - في زعم هؤلاء المخبولين - ظل هكذا (أستغفر الله والله ما أريد أن أقول هذا فما يليق، ولكن على كل حال الواقعة تنطق بهذا) فعندما وجد الرب الصبح قد أوشك على الطلوع، قال له اذهب فقد باركتك، فتركه يعقوب بعد أن كان قد صرعه وأوقعه في الأرض ..
أي خبل هذا .. ويقولون: إن الله فقير ونحن أغنياء ويد الله
مغلولة، ما كل هذا؟! حاشا لله .
ولهم رأي في الأنبياء شديد فيرون مثلاً أن أحد الأنبياء كان
يضاجع ابنته في الحرام وحملت منه، وغير ذلك كثير.
وقد يسأل سائل: نحن كثيرًا ما نحذر من الإسرائيليات، فلماذا "
نذكرها ؟!
ذلك لأن قصة سيدنا يوسف حسب معظم المصادر والتي تعتمد بشكل أساسي على الإسرائيليات قد جعلت الناس يتصورون أن يوسف أوشك أن يقع بالمرأة، وكتب التفسير عندنا مليئة بالإسرائيليات، لذلك لا أن ننظر إلى الإسرائيليات بشكل يصح مطلق، فهؤلاء القوم قصدوا إهانة الله، وإهانة النبيين، ولا يعرفون لهم
توقيرا ..
لقد تمثل موقف الإسلام من روايات بني إسرائيل أنه لا يصدقها، ولكنه لا يقول إنها كاذبة إلا إذا خالفت الوحي؛ لأنها قد تكون من التوراة أو الإنجيل قبل التحريف فلا نصدقها ولا نكذبها، ولكن لا نحولها الجزء من أفهامنا ونذكرها في التفسير ونقول حدث كذا، فهذا
حرام.